وأما من
نفى القياس فقوله أشبه بهذا الأصل، فإنه إذا لم يأمر لحكمة فلا معنى لتعليل أمره ونهيه، لكن مثبتة القياس من هؤلاء قالوا: إن الحكمة اقترنت بالأمر وإن لم يأمر لها، وقالوا في الأمر كما قالوا في الخلق، فقالوا: كما جرت عادة الله تعالى في خلقه، فخلق الشبع عقب الأكل، والري عقب الشرب، والاحتراق عقب الإحراق، ونحو ذلك، وإن لم يكن خلق هذا لهذا ولا لهذا، ولا جعل سبحانه أحد هذين علة للآخر عندهم.
قالوا: فهكذا أمره، أمر بقطع السارق، لا لأجل حفظ الأموال، بل إذا قطع السارق حفظت الأموال، فاقترن هذا بهذا عادة، وإن لم يأمر بهذا لأجل هذا. فالمصلحة عندهم توجد عند
[ ص: 281 ] هذه الأسباب، لأنها والأفعال تقترن بها المصلحة عادة، وإن لم تكن أسبابا وعللا لها عندهم.
. فهذا قولهم، وهو موجود في أقوال كثير من المنتسبين إلى السنة من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك بن أنس nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وغيرهم، وهي أقوال مبتدعة مخالفة لنصوص الأئمة وأصولهم، ولنصوص الكتاب والسنة، وإجماع السلف، والعقل الصريح، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن نفاة القياس لما سدوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل -وهو من الميزان والقسط الذي أنزل الله سبحانه- احتاجوا في معرفة الأحكام إلى مجرد الظواهر، [و] صاروا معتصمين بالظاهر والاستصحاب، فحيث فهموا من النص حكما أثبتوه، وحيث لم يفهموه نفوه، وأثبتوا الأمر على موجب الاستصحاب. وهم وإن أحسنوا في كونهم قالوا: إن النصوص تفي بجميع الحوادث، وإن الله ورسوله بين الأحكام، وأكمل الدين، وأغنى الناس عما سوى الكتاب والسنة، وأحسنوا في ردهم ما
[ ص: 282 ] ردوه من الأقيسة الفاسدة- فأخطأوا من ثلاثة أوجه :
أحدها: رد القياس الصحيح.
والثاني: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكم دل عليه النص، فلم يفهموا دلالته عليه، فكانوا مقصرين في فهم الكتاب لما قصروا في معرفة الميزان.
والثالث: جزمهم بموجب الاستصحاب، لعدم علمهم بالناقل، وعدم العلم ليس علما بالعدم.