فتخويف الكفار والمنافقين وإرعابهم هو من الله نصر للمؤمنين، ولكن الذين قالوا ذلك من السلف أرادوا أن الشيطان يخوف الذين أظهروا الإسلام وهم يوالونه من العدو، فإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم، كما قال تعالى:
ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون ، وقال تعالى:
قد يعلم الله المعوقين منكم إلى قوله
وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم الآية .
[ ص: 58 ]
فكلا القولين صحيح من حيث المعنى، لكن لفظ أوليائه في الآية هو الذي يجعلهم الشيطان مخوفين لا خائفين، كما دل عليه سياق الآية ولفظها، وإذا جعلهم الشيطان مخوفين فإنما يخافهم من خوفه الشيطان فجعله خائفا. فالآية دلت على أن
الشيطان يجعل أولياءه مخوفين، ويجعل ناسا خائفين أولياءه.
ودلت الآية على أن
المؤمن لا يجوز أن يخاف أولياء الشيطان، وعليه أن يخاف الله، فخوف الله أمر به وخوف أولياء الشيطان نهي عنه. وهذا كقوله في الآية الأخرى:
لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم الآية ، فنهى عن خشية الظالم وأمر بخشيته تعالى. وقال:
الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ، وقال:
فإياي فارهبون .
وبعض الناس يقول: يا رب! أخافك وأخاف من لا يخافك. وهذا لا يجوز، بل عليه أن يخاف الله، ولا يخاف من لا يخاف الله، فإن من لا يخاف الله ظالم من أولياء الشيطان، وهذا قد نهى الله عن أن يخاف.
وإذا قيل: قد يؤذيني، قيل: إنما يؤذيك بتسليط الله له، وإذا أراد سبحانه دفع شره عنك دفعه، فالأمر لله. أنت إذا خفت الله فاتقيته وتوكلت عليه كفاك شره، ولم يسلطه عليك، فإنه تعالى قال:
ومن يتوكل على الله فهو حسبه .
[ ص: 59 ]
وتسليطه يكون بسبب ذنوبك وخوفك منه، فإذا خفت الله وتبت من ذنوبك واستغفرته [لم يسلطه عليك] ، وقد قال تعالى:
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون . وفي الآثار:
nindex.php?page=hadith&LINKID=938015 "أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسبب الملوك، وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم".
وقد قال لما سلط العدو عليهم يوم أحد:
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير، وقال تعالى:
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين . والأكثرون يقرأون
"قاتل معه ربيون كثير"، والربيون الكثير عند جماهير السلف والخلف هم الجماعات الكثيرة . قال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس- في رواية عنه-
والفراء : ألوف كثيرة" وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس -في رواية أخرى-
nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد وعكرمة nindex.php?page=showalam&ids=14676والضحاك وقتادة nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي والربيع nindex.php?page=showalam&ids=13436وابن قتيبة : جماعات كثيرة. وقرئ
[ ص: 60 ] بالحركات الثلاث في الراء، فعلى هذه القراءة الربيون الذين قاتلوا معه هم الذين ما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا.
وأما على قراءة
أبي عمرو وابن كثير ونافع "قتل" ففيها وجهان:
أحدهما يوافق معنى هذه الآية، أي قتل معه ربيون كثير، فالربيون مقتولون، فما وهنوا أي ما وهن من بقي منهم لقتل كثير منهم.
والثاني أن النبي قتل ومعه ربيون كثير، فما وهنوا لقتل نبيهم.
وهذا يناسب كون يوم
أحد صرخ الشيطان بأن
محمدا قد قتل. لكن هذا المعنى لا يناسب لفظ الآية، فإنه سبحانه قال:
"ربيون كثير"، فالمناسب أنهم مع كثرة المصيبة الشاملة لهم ما وهنوا. ولو أريد أن النبي قتل ومعه ناس لم يخافوا لم يحتج إلى تكثيرهم، بل كان تقليلهم هو المناسب، يقول: هم مع قلتهم وقتل نبيهم لم يخافوا.
وأما إذا كانوا كثيرين لم يكن مدحهم بعدم الخوف فيه عبرة.