[ ص: 94 ]
مسألة عن الأحوال وأرباب الأحوال
[ ص: 95 ] مسألة
عن الأحوال وأرباب الأحوال، هل هم قسمان: أولياء لله تعالى أحوالهم ربانية; وأولياء للشيطان أحوالهم شيطانية؟ وإذا كان كذلك فما الفرق بين هؤلاء وهؤلاء؟ فإن جماعة من الناس انحرفوا، حتى أنكروا كرامات الأولياء، وآخرين اعتقدوا كل خارق دليلا على الولاية الرحمانية.
أجاب الشيخ الإمام شيخ الإسلام
تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية - أيده الله ووفقه لما يرتضيه بمنه وكرمه -:
الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة من أعظم المسائل التي يحتاج إليها جميع الناس، فإنه من لم يفرق بين الخوارق التي تكون آيات وبراهين ومعجزات للأنبياء، وتكون مما يكرم الله به الأولياء; وبين الخوارق التي تكون للسحرة والكهان وغيرهم من حزب الشيطان، وإلا اشتبه عليه الأنبياء وأتباعهم أولياء الله المتقون بالمنتسبين الكذابين وشبههم الكذابين الضالين.
ولهذا اضطرب في هذا الأصل كثير من أهل النظر والكلام في أصول الدين والعلوم الإلهية، ومن أهل العبادة والزهد والفقراء والصوفية. وأما اشتباه ذلك على عموم الناس ومن شدا طرفا من العلم أو كان له حظ من العبادة، فأعظم من أن يوصف.
[ ص: 96 ]
والله سبحانه بعث رسوله وأنزل كتابه لبيان الفرق بين هذا وهذا، وختمهم
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل رسول بعثه بأفضل كتاب إلى أفضل أمة بأفضل شريعة، فرق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، وأولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وجند الله المفلحين وحزب إبليس اللعين. وقد بسط الكلام عليه [في] غير هذا الموضع، مثل "بيان الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لأجل سؤال من سأل عن ذلك من أهل الملك والعلم والدين.
فمن أنكر كرامات أولياء الله المتقين فهو من أهل البدع الضالين، كمن أنكر ذلك من
المعتزلة وغيرهم، ولهذا كان أفضل متأخريهم
أبو الحسين البصري مقرا بكرامات أولياء الله المتقين، وإن كان بعض أهل الإثبات
nindex.php?page=showalam&ids=11812 -كأبي إسحاق الإسفراييني- وافق
المعتزلة على
إنكار الكرامات. فإنكار كرامات أولياء الله المتقين قول مبتدع في الإسلام، مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف الماضين وأئمة الدين، بل من أنكر خوارق أهل السحر وأتباع الشياطين فهو من أهل البدع الضالين، كما أنكر طائفة من الفلاسفة والأطباء وجود الجن، وأنكر كثير من
المعتزلة أن يدخلوا في الإنسان ويصرعوه ويتكلموا على لسانه. فكلا القولين من الأقوال الباطلة المخالفة للكتاب والسنة وأقوال الأئمة، بل من المخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وإن كان
إنكار الجن كفرا ظاهرا ، فكثير ما في الكتاب والسنة من ذكرهم، بخلاف دخولهم في الإنسان فإنه أخفى، ولهذا كان إنكار الثاني بدعة وإنكار الأول إلحادا ظاهرا.
[ ص: 97 ]
والمقصود [أن] من
أنكر خوارق العادات مطلقا للأنبياء وغيرهم فهذا كافر باتفاق أهل الملل، وكذلك إن جعل ذلك من قوى النفس، كما يقوله
ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة، فهؤلاء ملحدون باتفاق أهل الملل، وقد بسط الكلام على هؤلاء في مجلد كبير يسمى "الصفدية" وغيرها.