التحقيق أن الذين سماهم فقهاء إذا كان مقصودهم إنما هو فهم الحديث وحفظ معناه وبيان ما يدل عليه، بخلاف المحدث الذي يحفظ حروفه فقط، فالنوعان مثل الممسك الحافظ المؤدي لغيره حتى ينتفع به، لكن الأول فهم من مقصود الرسول مالم يفهمه الثاني.
[ ص: 128 ]
وكذلك القرآن إذا كان هذا يحفظ حروفه، وهذا يفهم تفسيره، وكلاهما قد وعاه وحفظه وأداه إلى غيره، فهما من القسم الثاني، وإنما القسم الأول من شرب قلبه معناه فأثر في قلبه كما أثر الماء في الأرض الذي شربته، فحصل له به من ذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته ومحبة الله وخشيته والتوكل عليه والإخلاص له، وغير ذلك من حقائق الإيمان الذي يقتضيها الكلام، فهؤلاء كالطائفة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، ولا بد أن يظهر ذلك على جوارحهم كما يظهر الكلأ والعشب. قال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري :
ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650050 "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب". وهذا مبسوط في مواضع، مثل "كتاب الإيمان وشرح أحاديثه وآياته" وغير ذلك .
والسلف كانوا يجعلون الفقيه اسما لهذا، والمتكلم بالعلم بدون هذا يسمونه خطيبا، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : إنكم في زمن كثير فقهاؤه قليل خطباؤه، كثير معطوه قليل سائلوه; وسيأتي عليكم زمان كثير خطباؤه قليل فقهاؤه، كثير سائلوه، قليل معطوه".
[ ص: 129 ]
وفي حديث
زياد بن لبيد الأنصاري لما
nindex.php?page=hadith&LINKID=703710قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هذا أوان يرفع العلم"، فقال له زياد: كيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه ولنقرئنه أبناءنا ونساءنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى؟ فماذا يغني عنهم؟ ".
وقد قال الله تعالى:
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا .
وقال تعالى:
ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون .
وقال تعالى:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها الآية .
وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=664978 "خصلتان لا تكونان في منافق: حسن سمت [ ص: 130 ] ولا فقه في الدين". فإن حسن السمت صلاح الظاهر الذي يكون عن صلاح القلب، والفقه في الدين يتضمن معرفة الدين ومحبته، وذلك ينافي النفاق.
وقال الكفار
لشعيب: يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول مع أن شعيبا خطيب الأنبياء.
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=653234 "الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". وهذا إنما يكون بفهم القلب للحق، واتباعه له.
وفي الصحيحين عن
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=655007 "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها". فهذا قارئ القرآن يسمعه الناس وينتفعون به وهو منافق، وقد يكون مع ذلك عالما بتفسيره وإعرابه وأسباب نزوله، إذ لا فرق بين حفظه لحروفه وحفظه لمعانيه، لكن فهم المعنى أقرب إلى أن ينتفع الرجل به، فيؤمن به ويحبه ويعمل به، ولكن قد يكون في القلب موانع من اتباع الأهواء والحسد والحرص والاستكبار، التي تصد القلب عن اتباع الحق، قال تعالى:
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون [ ص: 131 ] ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون . فهؤلاء لا خير فيهم يقبلون الحق به إذا فهموا القرآن، فهو سبحانه لا يفهمهم إياه، ولو علم فيهم خيرا لأفهمهم إياه، ولما لم يكن فيهم خير فلو أفهمهم إياه لتولوا وهم معرضون، فيحصل لهم نوع من الفهم الذي يعرفون به الحق، لكن ليس في قلوبهم قصد للخير والحق وطلب له، فلا يعملون بعلمهم ولا يتبعون الحق.