[ ص: 175 ] فتوى في العشق
[ ص: 176 ] [ ص: 177 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال رفع لشيخ الإسلام أبي العباس
تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، وصورته:
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في رجل عاشق في صورة، وتلك الصورة مصرة على هجره منذ زمان طويل لا يزيده إلا بعدا، ولا يزداد لها إلا حبا، وعشقه لهذه الصورة من غير فسق ولا خنا، وليس هو ممن يدنس عشقه بزنا، وقد أفضى الحال إلى هلاكه لا محالة إن بقي مع محبوبه على هذه الحالة. فهل يحل لمن هذه حاله أن يهجر؟ وهل يجب وصاله على المحبوب المذكور؟ وهل يأثم ببقائه على ما يكره من المحب؟ وماذا يجب من تفاصيل أمرهما وما لكل واحد منهما على الآخر من الحقوق مما يوافق الشرع والعقل؟ أفتونا مأجورين رحمكم الله.
الجواب
الكلام على هذه المسألة ينبني على أصلين: أحدهما يتعلق بالعاشق، والآخر يتعلق بالمعشوق، ولكل واحد منهما تفاصيل تذكر عند ذكره. ولا بد من تقديم مقدمة ينبني عليها الجواب، وهي:
لا شك أنه من المعلوم أن
الشرع والعقل قد دلا [على] وجوب تحصيل المصالح وتكميلها، وإعدام المفاسد وتقليلها، فكلما يرى العاقل أنه إذا دخل في أمر ما يوجب له مصلحة من وجه ومفسدة من
[ ص: 178 ] وجه وجب عليه عند ذلك الترجيح، فيأخذ لنفسه بالأسد والأكمل والأرشد والأصلح.
ومن المعلوم أنه
ليس في عشق الصور مصلحة شرعية دينية، لما يؤدي إلى الاشتغال بذكر المخلوق عن ذكر الخالق، والعبث بالصور لا المعاني، والالتحاق بالعالم الحيواني غير الناطق في الائتلاف الصوري. كما سئل بعضهم عن العشق، فقال: هي قلوب غفلت عن ذكر الحق، فشغلت بذكر الخلق. فهذا مما يدل على بعد عش الصور عن الرب العظيم باشتغالهم بالخسيس الذميم.
لكن قد ذكر المتقدمون من عقلاء العرب وظرفائهم وطائفة من الحكماء أن فيه فوائد، مع اتفاقهم على نقصه من جهة ما ذكرنا من أن صاحبه كلما قرب منه بعد عن الله عز وجل. إن فيه فوائد ، من جملتها رقة الطبع وإزالة خبثه وترويح النفس وخفتها ورياضة الجسد، كما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=17335يحيى بن معاذ الرازي أنه قيل له: إن ابنك عشق فلانة، فقال: الحمد لله الذي صيره إلى طبع الآدمي.
وقال بعضهم: العشق داء أفئدة الكرام.
وقال بعضهم: العشق لا يصلح إلا لذي مروءة ظاهرة، أو لذي لسان فاضل وإحسان كامل، أو لذي أدب بارع وحسب خاشع ، ويقبح لسواهم.
وقال بعضهم: العشق يشجع جنان الجبان، ويصفي ذهن الغبي، ويسخي كف البخيل، ويخضع عزة الملوك، ويسكن نوافر الأخلاق.
[ ص: 179 ]
وهو أنيس المؤنس وجليس المجالس ، وملك قاهر وسلطان.
وقال بعض العرب :
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فأنت وعير في الفلاة سواء
وحكي أن
جالينوس قال: من لم تبتهج نفسه للصوت الشجي والوجه البهي فهو فاسد المزاج، يحتاج إلى العلاج.
وقال بعض الحكماء:
العشق يروض النفس ويهذب الأخلاق، وإظهاره طبعي، وإضماره تكليفي، حاجبه الصبر وخادمه الجوارح.
فهذه آثار - كما ترى - دالة على أنه ليس في العشق مصلحة شرعية دينية، وإنما مال إليه هؤلاء لما ذكروا فيه من المصالح العقلية والرياضية، من تهذيب النفس ورياضتها، ولو تعلق هؤلاء بمحبة الإله المعبود لألهاهم ذلك عن محبة الأشخاص الفانية، وحصل لهم مقصودهم من رياضة النفس وفرط المحبة وتهذيب الأخلاق المذكورة، وصار كل موجود يحدث لهم الفكر فيه وجدا لموجده، وكل مخلوق يتبين لهم منه محبة لخالقه، فتخاطبهم الموجودات والمخلوقات بألسنة الأحوال، وتوضح لهم أنه لا يستحق المحبة على الكمال غير ذي الإكرام والجلال.
هذا ما يتعلق بالمقدمة وكيفية بناء الأصلين عليها.