وكان قدماء
الجهمية الذين ينكرون أن يكون الله فوق عرشه يقولون: إنه بذاته في كل مكان، وإنه حال في كل مكان، وهو رأي طائفة من متصوفة
الجهمية مثل
الديلمي ونحوه، وأما علماء
الجهمية وفضلاؤهم فلا يصفونه إلا بالسلب، ليس داخل العالم ولا خارج العالم، ولا هو فوق العرش ولا في العالم ونحو ذلك. وكان السلف وأئمة الدين يعلمون أن هذا القول يستلزم نفي ذاته، ويقولون: إنما يدورون على التعطيل.
وهذا هو الذي أوقع هؤلاء الملاحدة
الاتحادية في زعمهم أنه هو هذا الوجود، فإن العابد لا يقدر أن يعبد إلا شيئا موجودا، فإن الإرادة والقصد لا يتعلق بمعدوم، بخلاف الوصف والكلام، فإنه يتعلق بموجود وبمعدوم. فالمتكلمون بالنفي إذا لم يثبتوا وجودا تكون قلوبهم خالية من تحقيق العبادة، لأن ذلك ليس هو مطلوبهم ومقصودهم، ولهذا يغلب عليهم القسوة والإعراض عن العبادة لله ولغيره، وأما أهل الإرادة والعبادة من الصوفية والعامة ونحوهم إذا لم يتوجهوا بقلوبهم إلى رب العالمين الذي وصفته رسله
[ ص: 418 ] لمحمد صلى الله عليه وسلم:
هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم ، الذي هو فوق السماوات، فلا بد أن تتعلق قلوبهم بموجود ما، فتارة يتعلقون بأنه بذاته في كل مكان، وتارة تتعلق بحلوله أو اتحاده ببعض الأشخاص
كالمسيح وعزير وغير ذلك، وتارة يتعلقون بعبادة الملائكة أو الكواكب والأصنام ليتقربوا بها إليه، فإنه لا بد للقلب من صمد يقصد إليه بالعبادة حق موجود. والصفات السلبية لا يتعلق بها القلب ولا يطمئن، فإن قصد العدم كعدم القصد، وعبادة المعدوم كعدم العبادة.
فهذا الجهل والضلال بصفات ربهم هي التي أوقعتهم في عبادة ما سواه. ثم إنه يحصل من أحدهم توجه إلى الله وعبادة له، فيشهد بقلبه الوجود القائم بأمره، ويرى أن حكم الله وسلطانه ساري في جميع الكائنات، فيعتقد أن ذلك هو الله الخالق، مثل من رأى شعاع الشمس فاعتقد أنه رأى الشمس وإنما رأى أثرها، وهكذا هؤلاء ما شهدوا بقلوبهم إلا صنع الخالق وخلقه وملكه وسلطانه، ولهذا تارة يجعلون الرب في ذلك كالروح في الجسد، وتارة كالماء في الصوفة، وهذا قول بالحلول،
والرب -كما قال nindex.php?page=showalam&ids=16418عبد الله بن المبارك والإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد وسائر أئمة السنة والمعرفة- فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه. فجاء هؤلاء
الاتحادية المستأخرون جعلوه نفس الموجودات لم يخلوه منها، وجعلوا الوجود المخلوق
[ ص: 419 ] المصنوع هو الوجود الخالق. ثم قد علموا أن ثم خالقا ومخلوقا، فاضطربوا هنا:
فأما صاحب "الفصوص" فإنه يقول: أعيان الممكنات ثابتة في العدم، كما يقول من يقول من
المعتزلة والشيعة: إن المعدوم شيء، ويقول: إن نفس وجود الحق فاض عليها وظهر فيها، فوجودها هو وجود الحق، وذاتها ليست ذات الحق، ويقول: ما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك، وإن الله ما أحسن إلى أحد ولا أنعم على أحد، وإنما الذوات الثابتة في العدم هي المحسنة المسيئة بما قبلته في فيض وجود الحق عليها. ويجعل أسماء الله هي النسبة بين وجوده وبين ثبوت الممكنات.
وهذا القول كفر، وهو باطل من وجهين:
من جهة أنه جعل المعدوم شيئا ثابتا، وفرق بين الثبوت والوجود، فإن هذا قول باطل وفرق فاسد، وشبهته ثبوتها في علم الحق، ولا يلزم من علم الحق بها ثبوتها في نفسها ولا وجودها.
الوجه الثاني: أنه لو فرض أن الأعيان ثابتة فليس وجودها وجود الحق، بل الرب أبدع وجودها وخلقها، كما قال تعالى:
أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وقال:
خالق كل شيء .
وهكذا يقول من يقول بأن المعدوم شيء من
المعتزلة وغيرهم،
[ ص: 420 ] يقولون: إنه خلق وجوده، لا يقولون: إن وجوده هو نفس وجود الحق.
وأما سائر
الاتحادية فلا يفرقون بين الوجود والثبوت، ولا يقولون: إن المعدوم شيء، بل منهم من يفرق بين الوجود المطلق والمعين،
كالقونوي فإنه يقول: الحق هو الوجود المطلق، فإذا تعين لم يكن هو الحق. وعلى قول هذا ليس لله وجود إلا ما يقوم بالمخلوقات، فلو زالت لزال وجودها. وهو أيضا جحد لرب العالمين في الحقيقة، وإثبات للوجود الذي أقر به فرعون.
وأصحاب هذا القول والذي قبله يفرقون بين المظاهر والمراتب والمجالي وبين الظاهر المتجلي، فيقولون: ظهر وجوده في أعيان الممكنات -على رأي صاحبه "الفصوص"- أو ظهر الوجود المطلق في المتعينات -على رأي صاحبه الرومي.
وأما
التلمساني وغيره فعندهم ما ثم غير ولا سوى بوجه من الوجوه، ولا يفرقون بين المطلق والمعين والوجود والثبوت، بل هو الله عندهم كالبحر وأمواجه. وهم تارة يشبهون الله بالشمع والفضة الذي يظهر في صور مختلفة وهو هو.
ثم يقول
الرومي: هو المادة المشتركة المطلقة، وأما أعيان الصور فليس هو. وأما
nindex.php?page=showalam&ids=12816ابن العربي فيشبهه بظهور النور في الزجاج، يظهر في كل زجاجة بحسب لونها، وهو واحد في نفسه. وأما
التلمساني ونحوه فأبلغ من هؤلاء.
[ ص: 421 ]