وأما هذا الكلام المذكور المضاف إلى
سعد الدين بن حمويه فهو مركب من مذهب المسلمين وسائر أهل الملل الذي جاءت به الرسل عن الله، ومن مذهب هؤلاء
الاتحادية، وهو إلى
الاتحادية أقرب، وما فيه من الإلحاد فهو يشبه قول صاحب "الفصوص" من وجه، وقول صاحبه
الرومي من وجه، وليس مثلهما. وذلك أنه جعل ثبوت الحقائق في علم الله بمنزلة ثبوتها في الخارج ليجعل التجلي عليها،
وثبوت الحقائق في علم الله صحيح، لكن يمتنع أن يحصل التجلي على شيء علم قبل أن يوجد. ثم جعل تجلي الحق لها بمنزلة ظهور وجوده في الأعيان الممكنة.
فهذا القول أقل كفرا، لكنه أظهر تناقضا، فإنه لم يصرح بأن وجودها عين وجوده، ولا صرح بثبوت ذواتها، لكنه زعم أن تجليه لأعيانها الثابتة في علمه، مثل ما ذكر صاحب "الفصوص" أنه حصول وجود الحق في أعيان الممكنات. وتكلم في التعين بكلام قارب مذهب
القونوي، كما سنذكره إن شاء الله.
وهذا التفصيل الذي نذكره نحن لمذاهب هؤلاء أكثرهم لا يفهمونه، ولعل فاضلهم يفهم بعض مذهب نفسه فقط، لأنها أقوال هي في نفسها متناقضة، فاضطربوا فيها كما اضطربت النصارى في الأقانيم وفي الحلول والاتحاد. وهذا شأن الباطل، كما قال تعالى:
إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك ، وكما قال تعالى:
[ ص: 422 ] ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
فصاحب هذا القول يقول: "هو في كانه يتجلى لنفسه بوحدته الذاتية، يشهد نفسه ويشهد الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة له، فلما أراد أن يعرض نفسه على تلك الحقائق نزل التجلي من كانه إلى شأنه التي يظهر فيه الحقائق الكونية، فظهر هو في تلك الحقائق".
وهنا يضطرب أمره، فلم يصرح بأن وجوده قام بالأعيان الممكنة كما صرح
nindex.php?page=showalam&ids=12816ابن العربي، فيكون اتحاديا محضا، ولا اكتفى بمجرد كونه يعلم أن تلك الحقائق أو بعضها ستعلمه كما هو الواقع، فإن الله إذا علم الأشياء وعلم أنها ستعلمه لتكن حينئذ قد صارت موجودة عالمة حتى توجد. بل استعمل اللفظ المشترك كما فعله في عين الحق، فجعل ثبوتها في علمه بمنزلة ثبوتها في الخارج، وظهوره لها علما بمنزلة ظهور وجوده في ذواتها.
فتدبر هذا، فإنه يبين حقيقة مطلوب هذا، ومعلوم أن وجوده الذاتي إن ظهر في الأعيان فأول ما يظهر باسم "أنا"، لأنه على زعمهم في وحدته الذاتية لا يتعين، ولا يكون له اسم إلا إذا ظهر في أعيان الحقائق المعلومة، عند هذا وعند ذاك ظهرت، وهذا التعيين هو النقطة الذي قد سماها عقدة حقيقة النبوة، وهو صورة علم الحق بنفسه الواقعة بصورة العمل المطابقة للصفة المعلومة،
[ ص: 423 ] وذلك لأن الحق كان متجليا نفسه لنفسه، ثم لما نزلت الحلية من كانه إلى شأنه تجلى للأعيان المشهودة له، وأعظمها حقيقة النبوة التي هي الإنباء والإخبار عن الوجود المطلق الذي كان في كانه.
فهذه النقطة هي في مشهوداته مطابقة لعلمه بذاته. ولهذا كانت صورة علم الحق بنفسه المطابقة للصفة المعلومية لأنه كان يعلم نفسه، وتجلى لهذه النقطة كما تجلى لنفسه، فصار شهودها له مطابقا لشهوده لنفسه، ولهذا قال: فصارت مرآة لانعكاس الوجود المطلق محلا لتميز صفاته القديمة.
لأن الذي كان في كانه من تجليه لنفسه بوحدته المطلقة ليس فيه عندهم صفات متميزة ولا أسماء، وهذا متفق عليه بين
الاتحادية أنه الحق عندهم في نفسه، ليس له اسم ولا صفة أصلا. وهذا وإن كان مطابقا لقوله غالية الصابئة الفلاسفة
والباطنية الذين يقولون: الحق الأول ليس له اسم ولا صفة، ولا يقولون: هو عالم ولا قادر ولا موجود، ولا يقولون: يعلم ولا يقدر ولا غير ذلك، فأولئك إذا حكي عنهم أنه يجعلونه عين مخلوقاته، فإن كان أولئك يجعلونه ساريا في المخلوقات فقولهم هو قول هؤلاء الملاحدة. وهذا صحيح، فإني وقفت على مقالة غلاة
الإسماعيلية والنصيرية في كتبهم التي يضنون بها إلا على خواص أكابرهم، فرأيتهم يصرحون فيها بنفي الصانع الخالق وجحوده بالكلية، كالمذهب الذي ذكره الله عن فرعون وحزبه، وعن الذي حاج
إبراهيم في ربه. وهكذا حكى عنهم من وقف على سر دعوتهم، كالقاضي
nindex.php?page=showalam&ids=12604أبي بكر ابن الباقلاني والقاضي
أبي يعلى والقاضي
nindex.php?page=showalam&ids=12816أبي بكر ابن العربي، وقد ذكر كلامهم
[ ص: 424 ] والرد عليهم
أبو عبد الله البصري nindex.php?page=showalam&ids=13372وأبو الوفاء ابن عقيل nindex.php?page=showalam&ids=14847وأبو حامد الغزالي وأبو القاسم الشهرستاني وغيرهم.
وأما غالب الخلق فإنما ينقلون عنهم ما يظهره لهم من دون هؤلاء، وهو
نفي الأسماء والصفات عن ذاته، كما يظهره هؤلاء
الاتحادية، ليظن الجهال أن هذا تحقيق عظيم وتوحيد تام، وليقربوا بذلك من الصابئة الفلاسفة الذين يقولون: ليس له إلا صفة سلبية أو إضافية.
وقريب منه مذهب
الجهمية النافية للصفات، فإن هؤلاء لا ينفون الأسماء ولا الأحكام التي هي الصفات القولية الخبرية، وهو الإخبار عنه بأنه يخلق ويرزق، وإنما ينفون المعاني التي يستحقها بنفسه. وقد قررت فساد مذاهب هؤلاء في مواضع، وبينت في مخالفتها للكتاب والسنة والإجماع ولفطرة الله التي فطر الناس عليها، وفسادها بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة.
وقد رأيت هؤلاء الغالية من
الإسماعيلية الباطنية قالوا في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي هو الدرجة السابعة، وهو آخر المراتب عندهم، وهو جحود الصانع بالكلية وجحود النبوات والشرائع والجزاء في الآخرة، قالوا: إن أقرب الطوائف إليهم هم المتفلسفة الصابئة، قالوا: لكن ليس بيننا وبينهم خلاف إلا في واجب الوجود، يعنون الذي صدرت عنه الممكنات، فإنهم يثبتونه ونحن لا نثبته.
وهكذا حدثني بعض أكابر مشايخ هؤلاء
الاتحادية، وكنت لما بينت له حقائق أمرهم يتعجب من ذلك ويستعظمه ويقول: هؤلاء الفقهاء لا يفهمون هذا، صم بكم عمي فهم لا يعقلون، حدثني أن
[ ص: 425 ] سعد الدين ابن حمويه كان يقول: ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف. وهذا حقيقة هذا القول المحكي عنه، فإن الإلحاد المحض نفي الصانع بالكلية، وأن هذا العالم الموجود ليس له صانع، فإذا قال القائل: إن هذا العالم الموجود هو الصانع، وهو الصانع المصنوع، فقوله مثل قول الملحدة المحضة في جحود رب العالمين. لكن ذاك لا يحتاج أن يقول: ظهر فيه صانعه، وهذا يقول: هو صانعه وما هو غير صانعه، لكن الصانع له ذات، وهو الوجود المطلق المرئي الذي له اسم ولا صفة، وله أسماء وصفات، وهي نسبة ذلك الوجود إلى مظاهره ومجاليه أو نحو هذه العبارات التي ليس لها حقيقة في الخارج، وإنما كل منهم يتخيل نوعا من الكفر ويقوله، ويقول: إنه غاية التحقيق ونهاية التوحيد وحقيقة النبوة، فيحتاج أهل العلم والإيمان إلى مجاهدتهم بالقلب واليد واللسان، فيحتاجون إلى شرح مقاصدهم -لتتبين أنواع كفرهم، ولئلا يحسب الجهال بهم أن تحتها حقائق إيمانية، فيؤمنون بالجبت والطاغوت مجملا أو مفصلا، لأنهم منتسبون إلى الإسلام ومدعون أنهم سادات العالم وأفاضل الخلق، حتى قد يتفضلوا على الأنبياء -كاحتياج
موسى إلى جهاد
فرعون، وإبراهيم الخليل إلى مناظرة الذي حاجه في ربه، واحتياج المؤمنين إلى جهاد
القرامطة الباطنية، فالله يفتح بين أهل العلم والإيمان .