ولما كان الغالب على المعرضين عن هدى المرسلين الإعجاب بآرائهم وبصائرهم وعقولهم ، والاستخفاف بأتباعهم ، قال سبحانه عن قوم
هود :
ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . فأخبر سبحانه أن السمع والبصر والفؤاد لا يغني مع الجحود بآيات الله .
ومثل ذلك قوله سبحانه :
فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده . فأخبر أن المنذرين
[ ص: 52 ] أعجبوا بما عندهم من العلم ، وهذه
حال من استغنى بعقله وعلمه عما جاءت به الرسل . وأخبر سبحانه أنه أحاط بهم ما كانوا يستهزئون به مما أنذرت به الرسل . وهذه حال عامة المتكايسين من هؤلاء الذين ينكرون العقوبات التي أخبرت بها الرسل .
وأخبر سبحانه أن
الرسالة عمت الأمم كلهم بقوله سبحانه وتعالى :
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، وقال سبحانه :
إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . وكما أخبر سبحانه أنه لم يكن معذبا أحدا في الدنيا ولا في الآخرة حتى يبعث رسولا ، أخبر سبحانه أنه بعث في كل أمة رسولا ، لكن قد كان يحصل في بعض الأوقات فترات من الرسل ، كالفترة التي بين
عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ، كما قال سبحانه وتعالى :
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير .
وزمان الفترة زمان درست فيه شريعة الرسول وأكثر الدعاة إليها
[ ص: 53 ] إلا القليل ، ولم يدرس فيها علم أصول دين المرسلين ، بل يبقى في الفترة من الدعاة من تقوم به الحجة ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد رحمه الله : "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بها أهل العمى" .
وكما قال
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في حديث
كميل بن زياد : "لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته ، أولئك الأقلون عددا والأعظمون عند الله قدرا" . فمن قامت عليه الحجة في الإيمان والشريعة التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجب عليه اتباع ذلك ، ومن درست عنه شرائع الرسل أو لم يكن رسوله جاء بشريعة سوى القدر المشترك بين المرسلين ففرضه ما تواطأت عليه دعوة المرسلين ، من الإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل الصالح ، دون ما تميزت به شريعة عن شريعة . وهؤلاء -والله أعلم- هم
الصابئون المحمودون في قوله سبحانه وتعالى :
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
[ ص: 54 ]
فحمد سبحانه من هذه الأصناف الأربعة من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ، وجعلهم من السعداء في المعاد ، وهذا يبين أن في
الصابئين من يكون سعيدا في الآخرة حميدا عند الله .
وكذلك قال في سورة المائدة :
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله ، والنصارى مقدمون على
الصابئين كما في سورة البقرة ، ويشبه -والله أعلم- أنهم قدموا هنا لفظا لتقدم زمنهم ، وجيء بهم بصيغة الرفع ليبين أن مرتبتهم التأخير ، لأن المعطوف على "إن" واسمها بصيغة المرفوع إنما يعطف بعد تمام الكلام . والصابئ هو الخارج ، ولهذا كانوا يسمون من خرج من دينهم الصابئ .
والعلماء وإن كانوا قد اختلفوا في الصابئين فالأشبه بظاهر القرآن والعربية وما دلت عليه السير وما تقتضيه أصول الشريعة : أن
الصابئين هم المهتدون المستمسكون بأصول دين الأنبياء ، وهو المتفق عليه من الإيمان والعمل الصالح دون شريعة معينة ، لأنهم يكونون بذلك يصدق عليهم أنهم خارجون من خصوص كل شريعة ، ويصدق عليهم أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا .
فأما من كان صابئا لا يؤمن بالله واليوم الآخر و [لا] يعمل صالحا فهؤلاء الكفار منهم ، كعباد الكواكب ونحوهم ، والقوم الذين بعث إليهم
إبراهيم كانوا صابئة ، وكذلك
فرعون وقومه ، وكذلك أكثر
[ ص: 55 ] أهل الأرض ، وكان غالبهم مشركين ، وعلماء
الصابئين هم
الفلاسفة ، فمن كان من أولئك
الفلاسفة مؤمنا بالله واليوم الآخر عاملا صالحا فهو من
الصابئين الذين أثنى الله عليهم ، ومن لا فلا .
وهذا بخلاف
المجوس والذين أشركوا فإن الله لم يحمد أحدا منهم ، وإنما ذكرهم لبيان حكم الله بينهم وبين غيرهم يوم القيامة في قوله تعالى :
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة .
ولما كان معلوما أن
اليوم الآخر هو يوم القيامة ، ولا يؤمن بيوم القيامة إلا أتباع الأنبياء ، إذ من لم يتبع الأنبياء من
الصابئين وغيرهم إنما يؤمن من المعاد بمعاد الأرواح فقط ، كما يؤمن به
المجوس وبعض المشركين ، وذلك ليس هو اليوم الآخر علم أن من اهتدى من
الصابئين فإنما اهتدى باتباع الأنبياء .
فتبين أن كل هدى حصل به سعادة الآخرة فهو باتباع الأنبياء ، وأن كل عذاب استحق في الدار الآخرة فهو بالإعراض عما جاءوا به ، ومن لم تبلغه دعوتهم فقد ورد أنه يكلف في الدار الآخرة ، وليس غرضنا ذكر ذلك .