وأما الوحي فكتاب الله ثم سنة رسوله ، ثم سيرة خير قرون هذه الأمة تشهد بأن الله ورسوله بين وهدى وشفى ، وأنه بلغ البلاغ المبين ، وبين باللسان العربي المبين ، وأنه لم يحل الخلق على غيره في هذا الباب ، ولا وكلهم إلى القياس الذي لا يجدي كما تقدم ، بل تولى بيان ما تحتاج إليه الأمة . وهذه جملة سيأتي -إن شاء الله- تفصيلها .
[ ص: 60 ]
ثم لما كان للقياس على العقول سلطان عظيم إذا لم يهتد إلى مواقفه ومجاريه ، وللوحي في القلوب برهان عظيم لعلمها بما اشتمل عليه ، ورأى أكثر الخلق أن بين مقتضى القياس والوحي تعارضا بينا وتنافيا واضحا ، تحزب الناس هنا فرقا :
فريق غلب عليهم معرفة القياس دون الأثارة ، فاتبعوا موجبه ، ثم ردوا ما بلغهم من الأثارة أو تأولوها .
وفريق غلب عليهم معرفة الأثارة ، ورأوا للقياس وأهله سلطانا عظيما ، فأحجموا عن النظر فيه ومفاوضة أهله ، صونا لأبصارهم من العمى ولقلوبهم من الحيرة . وهؤلاء أحسن حالا ، بل هم على نهج سلامة .
وفريق أعرضوا عن تدبر هذا والنظر في هذا ، وشغلوا نفوسهم بغير هذا .
وفريق قوي إيمانهم بالأثارة ، وأحسوا بسوء حال أهل القياس ، فذموهم وعابوهم على طريق الإجمال ، وإن لم يستطيعوا فك أقيادهم ولا تذليل قيادهم ، وهذه حال كثير من علماء الأثارة ، وهي حال حسنة ، وإن كان قد ترتب عليها الجور أحيانا ، لكن من كان [من] هؤلاء سببا لدلالة الأثارة نافيا عنها تحريف المخالفين كان من علماء الدين ، وإن كان دفعه للمعارض إجماليا .
[ ص: 61 ]
وفريق فوق هؤلاء ، آمنوا بالأثارة ، ثم أوتوا من الهداية الخاصة ما علموا به
فساد القياس تفصيلا ، فزالت عنهم المعارضات بالكلية ، ومنهم من يرفع إلى هداية يدرك بها حقيقة بعض ما جاءت به الآثار ، فيكون ذلك مثبتا لفؤاده .
ثم هذه الطرق قد تنفصل في المسائل ، فكثير من أرباب القياس قد خلص إليه من الأثارة ما لا يمكن دفعه ، فكان حكمه في ذلك حكم أرباب الأثارة في غيره ، فربما أخذ يؤيد بالقياس ما جاءت به الأثارة ، وإن كان لولا مجيء الأثارة لم يطمئن إلى موجب القياس .
وقوم منهم ضعف علمهم أو إيمانهم بالأثارة حتى نأوا عن الهدى ، ثم عظم قدر الأنبياء في قلوبهم بكمال التخيل في دعوة الخلق بضروب الاستعارات وأنواع الإشارات . ولا يشك لبيب أن الموغلين في القياس إذا طرق سمعهم جمهور ما جاءت به الأثارة بقوا متحيرين كما يخبرون به عن نفوسهم ، فإن القياس أيضا يقضي باستحالة اجتماع هذه الأثارة وهذا القياس ، فصار القياس يقضي بفساد القياس .