أما مسألتنا فالدعوى محررة تمنع القول بالموجب إلا على سبيل الموافقة ، وعلى سبيل الموافقة لا يبقى نزاع ، فإنا قلنا : "إذا بحث الإنسان وفحص وجد
ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون [ ص: 66 ] به أهل الحديث كله باطلا ، وتيقن الحق مع أهل الحديث ظاهرا وباطنا" . والمخالفة لا تكون إلا بما يخالف قولهم ويناقضه ، فنصير مدعين أن قول المتكلمين الذي يناقض قول أهل الحديث قول باطل ، كما لو قلنا : إن قول المتكلمين الذي يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع أو المعقول قول باطل . وهذا ليس بدليل حتى يكون القول بموجبه سؤالا جاء في دلالته ، وإنما هي دعوى ، فإما أن نوافق عليها أو نخالف ، فإن خولفنا فالسؤال على الدليل الآتي ، وإن ووفقنا فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
يبقى أن يقال : فهل للمتكلمين قول يخالف قول أهل الحديث ، بحيث يكون الكلام في وجوده؟ أم هو كلام على هذه الحقيقة مع قطع النظر على وجودها وعدمها؟ ولا شك أن مرادنا هو القسم الأول ، وإن كان تفسير اللفظ بالثاني ممكنا ، بأن نقول :
إن كان للمتكلمين قول مخالف لأهل الحديث فهو باطل ، وإلا فلا نص .
ومثل هذا السؤال إذا قيل :
كل قول للفلاسفة يخالف الأنبياء فهو باطل ، فإن المتفلسف المتأول يزعم أن
الفلاسفة موافقون الأنبياء لا مخالفون ، وإنما يعتقد مخالفتهم لهم عوام أهل الملل ومتكلمو أهل الجدل ، فإذا قال : أنا قائل بموجب قولكم لم يكن هذا سؤالا ، لكن إن فهم من المتكلم دعوى وجود المخالفة فله أن يطالب بتعيينها .
ومع هذه المناقشة فتسمية مثل هذا الكلام قولا بالموجب لا تأباه اللغة العربية ، بل تساعد عليه ، وقد يستعمله الناس في مناظراتهم ، فإن السائل يقول : ما أوجبته بدعواك من بطلان أحد القولين المتناقضين
[ ص: 67 ] أنا أقول به ، لكن لم توجد المناقضة بين القولين ، فكأنك تدعي بطلان ما لا وجود له ، وأنا قائل بموجب عبارتك لا بموجب إرادتك . وأنت تحكم على أهل الكلام بمخالفة أهل الحديث ، وهذا لم يوجد . لكن إذا قال السائل هذا قال له المدعي : أنت كما قد وافقتني على مدعاي ، فإن لفظي إما أن يعني نوعا أو عينا ، إن عني به النوع فليس من ضرورة الحكم على النوع وجوده في الخارج ، بل قد يقول : [من] كذب بسورة يس أو جحد بشيء من القرآن فهو كافر ، إن لم يعلم وجود ذلك .
وإن عني به العين كان التقدير : هذا التأويل المعين الذي يخالف أهل الكلام [فيه] أهل الحديث تأويل باطل ، فإذا قيل بموجب هذا كان موافقة في بطلان التأويل المعين ، ثم تبقى المنازعة في تسميته خلافا لأهل الحديث . ومعلوم أن هذا ثلم للمسألة ونزاع في نفيها .
فحاصله أن القول بالموجب تسليم للمسألة إن عني بها النوع وتنازع في وجودها ، أو تسليم لعينها ونزاع في صفتها ، فإن كان الأول فهو نزاع فيما لم يدل عليه اللفظ ، وإن كان الثاني فهو تسليم للمسألة ، ولا يضر بعد ذلك النزاع في اسمها .