فإن قلتم : إنما أنكروا التأويل الذي لا يعضده دليل صحيح ، ولم يكن جاريا على القواعد الصحيحة ، وإن كان متأوله يزعم اعتضاده بدليل صحيح وقواعد صحيحة .
قلنا : فهكذا نقول في
جميع تأويلات أهل الكلام المخالفة لأهل الحديث : إنها خالية عن دليل صحيح وعن القواعد الصحيحة .
وإذا كان هذا مدعيا لم يسغ أن يقال بموجبه إلا على سبيل الموافقة لنا ، وإنما يسوغ أن يطالب ببيان خلوها عن الدليل والقواعد الصحيحة ، أو أن يبين المتأول اقتران تأويله بدليل وقواعد ليبين فساد قوله .
الوجه الثاني : أن المنكرين للتأويل إبطالا وتحريما صرحوا بذلك في أعيان التأويلات التي ادعى المتأولون اقترانها بالدليل ، وسنذكر إن شاء الله من ذلك بعض ما حضر . وصرحوا أيضا بتحريم التأويل وإن زعم صاحبه اقترانه بدليل .
[ ص: 83 ]
الوجه الثالث : أنا لم نحكم إلا ببطلان تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث ، فإذا قلتم بإبطال أو بتحريم التأويل الخالي عن الدليل والقواعد لم يكن هذا نفيا لوجود ما أبطلناه ، لأنه يمكن أن يقال : هذا التأويل الذي رفعناه خلي عن الدليل والقواعد ، فإنا أبطلنا نوعا من التأويل ، ووافقتم على إبطال نوع منه . فإن قلتم : هذه التأويلات جارية على الأدلة والقواعد ، نازعناكم فيها .
فحاصله أن ما ذكرتموه لا يصلح مستندا لمنع أن يكون أهل الحديث خالفوا المتكلمين في أعيان التأويلات .
الوجه الرابع : قولكم "إن التأويل المقرون بدليل الجاري على القواعد العلمية صحيح" ، لا ننازعكم فيه ، وإنما الشأن في تقرير الدليل المصحح للتأويل وتثبيت القواعد المحققة له ، فإنكم تعلمون أن جميع أهل التأويل من القبلة لهم قواعد يضعون تأويلاتهم عليها .
ثم هذا القدر لا يصلح أن يكون سندا لقولكم "لا نسلم أن أهل الحديث منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين" كما تقدم ، والغرض هنا أن القول بالموجب لا يتوجه . وأما تقرير مذهب أهل الحديث فليس هذا موضعه ، لأنا بعد في تحرير الدعوى وما يرد عليها .
قولكم : "لا أسلم أن معتبرا حرم تأويلا يشهد العقل بصحته عند الحاجة إليه ، لعالم متبحر لا يرضى بأسر التقليد ، ولا يرى أن يستعمل في كشف الحقائق نور البصيرة الذي هو من أجل نعم الله على العبيد" .
فنقول أولا : من الذي حكى عن أحد من الناس تحريم مثل
[ ص: 84 ] هذا؟ هذا شيء لم نذكره ولم نقصده ، فمنعه منع شيء أجنبي خارج عن كلامنا ، وهذا منع لا توجيه له .
ونقول ثانيا : نحن قررنا
بطلان التأويل وفساده ، لم نتعرض لتحريمه بنفي ولا إثبات ، والكلام في صحة التأويل وفساده غير الكلام في حله وحظره ، ولا يلزم من عدم تحريم الاجتهاد والإفتاء والحكم أن يكون الاستدلال والفتيا والقضاء صحيحا ، كذلك لو فرضنا جواز الإقدام على هذه التأويلات لم يلزم أن تكون صحيحة ، بل جاز أن تكون باطلة ، يعني أنها غير مطابقة لمراد المتكلم ، سواء كان آثما أو معفوا عنه أو مأجورا .
ونقول ثالثا : التأويل الذي نتكلم فيه هو صرف الكلام [من] الاحتمال الراجح إلى المرجوح لدليل يعتضد ، كما تقدم بيانه .