قال : فإن قال قائل : قد وجدنا من المفترين المدعين قد ظهروا في العالم ، وصار لهم أتباع مثل أتباع الأنبياء ، قلنا لهم : من هم؟
فلا يتهيأ أن يسموا أحدا له تبع ورسم قائم غير
زردشت ومزدك وماني وبهافريد .
قلنا له :
زردشت ومزدك وبهافريد فإن ثلاثتهم ادعوا في زمانهم أن كل واحد في زمانه هو المستقيم على دين
إبراهيم ، ولم يدع واحد منهم خلافا عليه أي على
إبراهيم . فبريحه والانتساب إليه اجتمع له الأتباع والأصحاب ، لا بسياستهم وسلطانهم ، وإنهم لم يشرعوا دينا ، بل ادعى كل واحد منهم في زمانه أن شريعة
إبراهيم [ ص: 187 ] هي ما كل واحد منهم عليه ، يزاد فيه وينقص منه لطول الزمان الذي أتى عليه ، وكل واحد منهم ترجم في كتابه في زمانه لقومه وأتباعه على لسانهم .
قال : وأما
ماني فإنه ادعى أنه من تلاميذ
المسيح المستقيم الجاري على منهاج
إبراهيم ، وأن غيره من النصارى قد زاغوا عن طريقه ، وأن الإنجيل المنزل على عيسى هو الذي عنده ، وادعى أنه حين ارتقى إلى السماء أرقي إلى
عيسى ، وأنه بأمره عمل ما عمل وأسس ما أسس ، فبريح
المسيح تروح له ما تروح ، وتبعه من تبعه ، لا برأيه .
قلت :
والمشركون أعداء إبراهيم الذين يبغضونه ويحبون عدوه النمرود موجودون إلى اليوم من مشركي الترك
والصين ونحوهم ، يصورون الأصنام على صورة النمرود كبارا وصغارا ، وفيها ما هو كبير جدا ، ويعبدون تلك الأصنام ويسبحون باسم النمرود ، ومعهم مسابح يسبحون بها : سبحان النمرود! سبحان النمرود!
وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه هو الذي جعله إماما لمن بعده من الناس ، فلا يوجد قط مؤمن ولا منافق يظهر الإيمان إلا وهو معظم
لإبراهيم . وإن كان فيهم من يكذب بكثير مما كان عليه
إبراهيم . وقد جعل الله في ذريته النبوة والكتاب ، فالأنبياء بعده من ذريته ، فلا يوجد من يؤمن بالأنبياء إلا وهو مؤمن
بإبراهيم ، ولا من يدعو إلى عبادة الله في الجملة وينهى عن الشرك إلا وهو معظم
لإبراهيم .
وإن كان فيهم من هو مكذب بكثير مما كان عليه
إبراهيم ، ومكذب ببعض الأنبياء والرسل فإبراهيم بريء منه ، ومن ذريته محسن وظالم لنفسه مبين ، كما كان مشركو العرب ، وكما يوجد عليه أهل الكتاب ،
[ ص: 188 ] فإنه حين بعث
إبراهيم كان الشرك قد طبق الأرض ، وامتلأت بعبادة الكواكب العلوية والأصنام السفلية ، فأظهر التوحيد ودعا إليه ، وعادى الشرك وأهله ، ونصره الله على قومه .
والقرآن في غير موضع بين أنه كان حنيفا ، وجعل الحنيفية صفته ، حتى إن لفظ "حنيف" ينصب على الحال من المضاف إليه ، كقوله :
قل بل ملة إبراهيم حنيفا و
أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ، وهذا منصوب على الحال ، والكوفيون يسمونه نصبا على القطع ، لكونه لم يكن صفة في اللفظ فقطع ، وهو معنى قول البصريين إنه منصوب على الحال .
وقد قال بعض النحويين :
انتصاب الحال على المضاف إليه لا يجوز حتى يكون المضاف والمضاف إليه بمنزلة شيء واحد ، كقوله :
أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا هو حال من الأخ ، لأنه واللحم شيء واحد . وقوله :
قل بل ملة إبراهيم حنيفا كذلك ، لأن الملة بمنزلة البعض منه ، كقول
nindex.php?page=showalam&ids=76عدي بن حاتم -لما أتاه يعرض عليه الإسلام- : "إني على ديني" ، كأنه قال هجنة منه . ولهذا يجوز لك أن تقول : "أعمى زيد علمه ودينه" فتجعلهما بدلا من زيد .
( آخر ما وجد . والله أعلم ) .