وقد استوعب سبحانه أنواع جنس تكليمه لعباده في قوله تعالى :
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ، فجعل ذلك ثلاثة أنواع :
الوحي الذي منه ما هو إلهام للأنبياء يقظة ومناما ، فإن
رؤيا الأنبياء وحي .
والتكليم من وراء حجاب ، كما كلم
موسى بن عمران حيث ناداه وقربه نجيا .
والتكليم بإرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء هو تكليمه بواسطة إرسال الملك ، كما قال تعالى :
إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ، أي علينا أن نجمعه في قلبك ، ثم علينا أن نقرأه
[ ص: 285 ] بلسانك . وهذا على أظهر القولين ، وهو أن "قرأ" بالهمزة من الظهور والبيان ، وقولهم : ما قرأت الناقة بسلا جزور قط ، أي ما أظهرته ، بخلاف "قرى يقري" فإنه من الجمع ، ومنه سميت القرية قرية ، والمقراة مجتمع الماء .
فقوله تعالى :
إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه أي قرأناه بواسطة جبريل
فاتبع قرآنه . وهذا كقوله تعالى :
نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون ، وإنما ذلك بتوسط قراءة
جبريل وتلاوته ، كقوله :
أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء . فإن هذا قد جعله سبحانه أحد أنواع الجنس العام المقسوم ، وهو تكليم الله لعباده ، ولهذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت : رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في منامه .
وأدنى مراتب ذلك الوحي المشترك : الذي يكون لغير الأنبياء ، كقوله :
وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ، وقوله :
وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه .
وهذا الوحي المشترك هو الذي أدرجه في النبوة من
الفلاسفة من أدرجه ، كابن سينا وأمثاله ، فإن
أرسطو وأتباعه القدماء ليس لهم في النبوة كلام ، إذ كان
أرسطو هو وزير
الإسكندر بن فيلبس المقدوني [ ص: 286 ] الذي يؤرخ له التاريخ الرومي ، وبه يؤرخ كثير من اليهود والنصارى ، وكان قبل
المسيح عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة . وبعد
المسيح بنحو ثلاثمائة سنة كان
قسطنطين الذي أقام دين النصارى بالسيف ، وفي عهده أحدثوا الأمانة وتعظيم الصليب واستحلال الخنزير والقول بالتثليث والأقانيم بمجمعهم الأول المسمى بمجمع نيقية .
وهذا
الإسكندر المقدوني هو الذي ذهب إلى أرض
الفرس وغير ممالكهم ، وليس هو
ذا القرنين المذكور في القرآن ، الذي بنى
سد يأجوج ومأجوج ، فإن هذا كان متقدما على ذلك ، وكان موحدا مسلما .
والمقدوني لم يصل إلى تلك الأرض ، وكان هو وقومه مشركين يعبدون الهياكل العلوية والأصنام الأرضية ، ولم يزالوا على ذلك حتى وصلت إليهم دعوة
المسيح عليه الصلاة والسلام ، فأسلم منهم من أسلم ، وكانوا متبعين لدين
المسيح الحق ، إلى أن بدل منه ما بدل .
وهؤلاء كانوا بأرض الروم وجزائر البحر ، لم يصل إليهم من أخبار
إبراهيم وآل
إبراهيم -كموسى بن عمران وغيره- ما عرفوا به حقيقة النبوة ، ولهذا كان
أرسطو أول من قال بقدم الأفلاك من هؤلاء ، بخلاف من قبله
كأفلاطون وشيخه
سقراط ، وشيخ
سقراط فيثاغورس ، وشيخ
فيثاغورس انبدقلس ، فإن هؤلاء كانوا يقولون بحدوث صورة الفلك ، ولهم في المبادئ كلام طويل قد بسطناه في الكتاب الكبير الذي ذكرنا فيه مقالات العالم في مسألة
[ ص: 287 ] حدوث العالم وقدمه ، فإنها منشأ نزاع الأولين والآخرين في أقوال الرب وأفعاله ، وعنها تنازع أهل الملل من المسلمين وأهل الكتاب في
كلام الرب : هل هو قديم النوع أو العين؟ وهل هو قائم به أو مباين له؟ وهل يتكلم بقدرته ومشيئته أو هو لازم له لزوم الحياة؟