ولما
كان سلف هذه الأمة عالمين بغايات العلوم العقلية والسمعية وعلموا تلازمهما ، لم يكن بينهم تنازع ولا تعارض . وقد أخبر الله في كتابه بما دل به على أن كلا من العقل والسمع يوجب النجاة ، فقال تعالى عن أهل النار :
وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ، وقال تعالى :
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، وقال تعالى :
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
[ ص: 289 ]
فدل على أن مجرد العقل يوجب النجاة وكذلك مجرد السمع ، [و] معلوم أن السمع لا يفيد دون العقل ، فإن مجرد إخبار المخبر لا يدل إن لم يعلم صدقه ، وإنما يعلم صدق الأنبياء بالعقل ، لكن طائفة من أهل الكلام ظنوا أن دلالة السمع إنما هي من جهة المخبر فقط ، وقد علموا أن الخبر لا يفيد إن لم يعلم بالعقل صدق المخبر ، فجعلوا دلالة العقل خارجة عما جاءت به الأنبياء .
وأما حذاق المتكلمين فعلموا أن الرسول بين للناس الأدلة العقلية التي بها يعرف إثبات الصانع وتوحيده وصفاته وصدق رسوله ، وعلموا أنه لا يكون عالما بالكتاب والسنة إلا من علم ما فيهما من الأدلة العقلية التي تدل على المطلوب ، مثل العلم بصدق المخبر ، وأن الله إنما بعث رسولا إلى الخلق ليهديهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إلى الصراط المستقيم ، ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويجادلهم بالتي هي أحسن . إذ بعثه بالهدى ودين الحق ، وقد أكمل له ولأمته الدين ، وأتم عليهم النعمة .
وقد تضمنت رسالته ما به يعلم ذلك من الأدلة العقلية ، وإلا فمجرد إخبار المخبر قبل العلم بصدقه لا يفيد علما . وكذلك الأدلة العقلية لا يكون الناظر فيها قد أعطاها حقها حتى تدله على صدق الرسول ، فإن الأدلة العقلية اليقينية مستلزمة لذلك ، وثبوت الملزوم بدون ثبوت اللازم محال . ولهذا قال أهل النار لما قيل لهم
ألم يأتكم نذير قالوا بلى الآية إلى
السعير . فدل ذلك على
[ ص: 290 ] أنهم كذبوا الرسل فاستحقوا العذاب ، ودل على أنهم لم يكونوا يعقلون ، وأنهم لو عقلوا لصدقوا الرسل .