والعباد أعجز من أن يبلغوا ضره فيضروه، أو يبلغوا نفعه فينفعوه من وجهين:
من جهة الأسماء والصفات، وهو
أنه سبحانه أحد صمد قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، ويمتنع عليه أضداد أسمائه الحسنى التي وجبت له بنفسه.
ومن
جهة القضاء والقدر، وهو أنه لا يكون في ملكه إلا ما يشاؤه ويريده، ولا حول ولا قوة إلا به، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به.
وأما قول العابدة المحبة القائلة:
أحبك حبين: حب الهوى وحب لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حب الهوى
فكشفك للحجب حتى أراكا وأما الذي أنت أهل له
فشيء خصصت به عن سواكا
فلكلامها وجهان:
أحدهما: أن تريد بالحب الأول من جهة إنعامه على عباده، وهو الحب المأمور به. وبالثاني محبته لذاته. والأولى متفق عليها، والثانية
[ ص: 18 ] حق عند أهل السنة والجماعة، وفيهم أهل العلم والمعرفة واليقين، فإنهم متفقون على محبته لذاته، وقد قررت هذه المسألة في غير هذا الموضع.
الوجه الثاني: أن تريد بالحب الأول: الحب الذوقي الذي لا يتقيد بالأمر المحض، فإن من عرف الله ولو بعقله ونظره أحبه وعظمه، حتى المشركون فيهم محبة الله، كما قال تعالى:
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله أي كحبهم الله، لا كحب المؤمنين لله، فإن
الذين آمنوا أشد حبا لله، ثم إن المحبين من الأنبياء عليهم السلام، وأهل العلم والإيمان كثيرا ما يستعملهم الحب في أشياء ويدعوهم إلى أشياء من طلب، وسؤال عبادة، وإجلال، ونعوت، لابتغاء الوسيلة، وطلب نيل الفضيلة، وإن لم تكن تلك الأشياء قد أمروا بها، لكن إذا لم يكونوا نهوا عنها، بل وغير الحب من الأحوال المحمودة قد يفعل مثل ذلك، من الرحمة للخلق، والرجاء لرحمة الله، والخوف من عذابه، فإن الأفعال ثلاثة: مأمور به، ومنهي عنه، وما ليس مأمورا به ولا منهيا عنه.
فكثير من المحبين يفعل ما يراه محصلا لمقصوده من محبوبه إذا لم يكن منهيا عنه، حتى إن منهم من ينهى أو يمنع كما منع
موسى عليه السلام عن النظر لما سأله، وإنما دعاه إليه قلق الشوق والمحبة، كما أن نوحا لما سأل في ابنه قيل له:
فلا تسألن ما ليس لك به علم ،
[ ص: 19 ] فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا . وأما نبينا - صلى الله عليه وسلم - فلا يفعل إلا ما أمر به من دعاء وعبادة، فإن نبينا - صلى الله عليه وسلم - العبد المحض الذي لا يفعل إلا ما أمره به ربه، فلهذا أمره بالدعاء فقيل له:
وقل رب زدني علما ، وقيل له:
واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ،
وإذا كان يوم القيامة ورد الأنبياء إليه الشفاعة العظمى، وجاءته الأمم، يجيء إلى ربه، ويخر ساجدا، ويحمد ربه بمحامد يفتحها عليه، فيقول له:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656861 "أي محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع" ، فلا يشفع إلا بعد أن يؤمر بالشفاعة، فلا يقال له: أعرض عن هذا، ولا يقال له: لا تسألني ما ليس لك به علم.