وقد
أوجب الله على أهل المحبة متابعته بقوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ، فهؤلاء المتبعون لأمره، المستمسكون بسنته في الباطن والظاهر، هم خالص أمته، وأما من كان من أهل المحبة أو الخوف أو الرجاء أو الإخلاص، استعمله
[ ص: 20 ] حاله في أعمال لم يؤمر بها، ولم تسمح له، مثل كلام المكاء والتصدية التي تحرك حبه أو حزنه أو خوفه أو رحمته أو رجاءه، ومثل الشدة في عقوبة الفساق حتى يدعو عليهم، أو يعاقبهم بقوة عظيمة لله، من غير أمر منه بذلك، ومثل فرط الرحمة لهم حتى يشفع فيمن يحب الله، ويرضى عقوبته والانتقام له، أو تركه، بترك عقوبته، ولهذا يقول الله تعالى:
ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا ،
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ، وقال تعالى:
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، ومنهم من يحمله حب أقاربه حتى يدعو لهم بدعوة لم يؤمر بها، وغير ذلك.
وهذا كثير في أرباب الأحوال المتأخرين من هذه الأمة، وهم في هذه الأمور خارجون عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين، بمنزلة خروج من خرج من ولاة الأمور في السياسات الظاهرة عن طريقة الخلفاء إلى نوع من الملك في العقوبات وفي الولايات وفي الأعطية، فإن تصرف هذا وهذا ببغضه للحرمات من جنس واحد، لكن هذا بباطنه وهذا بظاهره، وكذلك عطاء هذا وهذا برحمته للعباد من جنس واحد، ثم كل منهما قد يكون مقصوده الرئاسة إما الباطنة وإما
[ ص: 21 ] الظاهرة، وقد يكون مقصوده الديانة، وإنما تصرف بحاله لا بالأمر.
وهذا باب عظيم ننبه عليه في مواضع، وإنما أشرنا إليه هنا لما ذكرنا محبة الهوى التي لم تتقيد بالعلم والأمر، وإن كانت محبة الله إذا لم تكن منهيا عنها، ولهذا قالت:
فكشفك للحجب حتى أراكا
أي هذا الحب يستدعي طلب الرؤية كما طلبها من طلبها في الدنيا.
وأما المحبة الثانية فهي العبودية المحضة للذي يحبه لذاته، فلا يفعل إلا ما أمر به، ولا يطلب إلا ما أمر به، ولا يستحق شيء أن يحب لذاته إلا الله، فإنه لا إله إلا الله، والإله هو الذي يعبد لذاته، فلذلك قالت: لأنك أهل لذاكا، وقالت:
فشيء خصصت به عن سواكا.