وأيضا فإن
الله قد أخبر أنه يحب الحسنات المأمور بها، من الإيمان والعمل الصالح، وأنه يرضاها، ويحب أهلها، ويرضى عنهم، والحب مستلزم للإرادة، وهو مع ذلك فقد شاء جميع الكائنات، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد قررت هذه القاعدة في غير هذا الموضع، وبينت الفرق بين كلماته الكونيات، وما يتصل بها من أمر وإرادة وإذن وحكم وبعث وإرسال وغير ذلك، وبين كلماته الدينيات، وما يتصل بها من أمر وإرادة وحكم وبعث وإرسال، قررت هذا الأصل الفارق في غير موضع، وأن منه تزول الشبهات الحاصلة في مسائل الدين والقدر وتعارضهما.
وحقيقة ذلك تعود إلى أن الدين الذي أمر الله به شرعا من بين سائر الكائنات، له من الله مزية واختصاص بذلك صار محبوبا مأمورا به، وذلك من وجهين:
أحدهما: من جهة عوده إلى الخلق، لما في الدين من مصلحتهم ومنفعتهم في الدنيا والآخرة بالثواب والنعيم المقيم المتعلق بالمخلوق، والمتعلق بالخالق، كالنظر إلى وجهه الكريم.
[ ص: 50 ]
والثاني: من جهة عوده إلى الخالق، حتى يصح أن يكون محبوبا لله مرضيا محمودا مفروحا به، وإلا فنفس تنعم هذا العبد وتعذب هذا العبد، وصلاح هذا وفساد هذا، سواء بالنسبة إلى الله من جهة الخلق والمشيئة والتكوين، فلابد أن يكون لأحدهما إلى الله إضافة وتعلق ونسبة بها يكون محبوبا له، مرضيا مفروحا به، محمودا مثنيا على أصحابه، ويكون الآخر مسخوطا عليه، ممقوتا مبغضا، ونحو ذلك، وراء ما يلحقه من العذاب.
وهذا الفرق هو حقيقة الدين، وسر الأمر والنهي، وغاية التكليف الشرعي، ومقصود الرسالة والكتاب، ولهذا تكلم الناس في علة خلقه للخلق، ثم أمره بالدين.
فقال فريق: إنه فعل ذلك لنفع الخلق ومصلحتهم، وزعموا أن هذا وجه حسن الفعل والأمر، وإن لم يكن هذا واقعا بالجميع ولا عائدا منه حكم إلى الفاعل، وهذا قول المعتزلة وغيرهم من
القدرية، ثم التزموا على هذا مسائل التعديل والتجوير، والتحسين والتقبيح بالقياس الفاسد على الخلق، واضطربوا فيه اضطرابا لا ينضبط.
وقد يوافق بعض أهل السنة- من أصحابنا وغيرهم- هؤلاء في بعض المسائل التي لا تخالف الأصول المشهورة في السنة، وعارضهم كثير من متكلمة الإثبات للقدر، الذابين عن السنة في مواضع كثيرة، فقالوا: لا يجوز تعليل شيء من ذلك، بل خلق وأمر لمحض المشيئة، وصرف الإرادة، ولا يجوز تعليل ذلك بمصلحة العباد ونفعهم، ولا غير ذلك.
[ ص: 51 ]
ثم إن كثيرا من العلماء يعتقدون أن ليس في هذا الأصل العظيم الجامع- المتعلق بأصول الدين والتوحيد، وبأصول الفقه وبالشريعة- إلا هذان القولان ، إما التعليل بنفع العباد وصلاحهم، وإما رد ذلك إلى محض المشيئة والإرادة الصرفة، وهذا القول الثاني يلزمه من اللوازم الفاسدة- التي تتضمن التسوية بين محبوب الله ومكروهه، ومأموره ومنهيه، وأوليائه وأعدائه- أشياء فيها من البطلان والشناعة ما يعلم به تفريط هؤلاء وغلطهم، كما فرط الأولون.
ويقارب هؤلاء من يقول من الفلاسفة وغيرهم: إن هذه المخلوقات لازمة لذاته، وإن قالوا: إنها صادرة عن عنايته، وإن تضمنت ما تضمنت من منافع الخلق ومصالحهم بطريق اللزوم. ويجعلون ذلك علة غائية.
ثم إنهم يتناقضون فلا يجعلون ذلك مقصودا للفاعل ولا مرادا له بالقصد الأول، وإلا لزمهم ما لزم الأولين من التعليل، فيثبتون في أفعاله من الحكم والعلل الغائية والمنافع ما لا يصدر إلا عن قصد وإرادة، ثم يتكلمون عن الإرادة بما يناقض ما قالوه.