فتوى في
البيع بفائدة إلى أجل [ ص: 222 ] [ ص: 223 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سئل شيخ الإسلام
تقي الدين أبو العباس ابن تيمية - رضي الله عنه - عن رجل احتاج إلى مئة درهم، فجاء إلى رجل فطلب منه دراهم، فقال الرجل: ما عندي إلا قماش، فهل يجوز له أن يبيعه قماش مئة درهم بمئة وخمسين إلى أجل؟ أو يشتري له قماشا من غيره، ثم يبيعه إياه بفائدة إلى أجل؟ وهل يجوز اشتراط الفائدة قبل أن يشتري له البضاعة؟ وما مقدار ما يجوز له أن يكسب في البضاعة إذا كانت تساوي مئة درهم إلى سنة؟ وهل تجوز المماكسة عند وزن الدراهم في البيع الحاضر أم لا؟ فإن أعطى البائع بطيبة قلبه، فهل يجوز له أن يبيع ما قيمته خمسون درهما بمئة إلى أجل معلوم؟ وكيف يصنع بتجارته إذا جلبها؟ وكيف يدينها إلى أجل؟.
فأجاب، فقال رحمه الله، ومن خطه نقلت:
الحمد لله رب العالمين. متى قال له الطالب: أريد دراهم، فأي طريق سلكوه إلى أن تحصل له الدراهم ويبقى في ذمته دراهم إلى أجل - فهي معاملة فاسدة، وذلك حقيقة الربا، فإن
حقيقة الربا أن يبيعه ذهبا بذهب إلى أجل، أو فضة بفضة إلى أجل،
حرم الله الربا لما فيه من ضرر المحاويج، وأكل أموال الناس بالباطل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:
nindex.php?page=hadith&LINKID=650001 "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" .
[ ص: 224 ]
فمتى كان المقصود ما حرمه الله ورسوله، فالتوسل إليه بكل طريق محرم، وإنما يباح للإنسان أن يتوسل إلى ما أباحه الله ورسوله من البيع المقصود والتجارة المقصودة، فإن الله أحل البيع وحرم الربا، وقال:
لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم . فالتاجر الذي يشتري السلعة ليبيعها، ويربح فيها إما بنقلها من موضع إلى موضع، أو حبسها من وقت إلى وقت، فهذا يقصد السلعة التي يربح فيها، لا يقصد أن يبيعها بأقل من ثمنها ولا بمثل ثمنها. والبيع مثل أن يكون قصده السلعة لينتفع بها، إما بأكل أو شرب أو لبس أو ركوب، أو غير ذلك من وجوه الانتفاع التي أباحها الله بالأموال.
فإذا لم يكن قصده أن ينتفع بالمال، ولا أن يبيعه ليربح فيه، وإنما مقصوده أن يبيعه ويأخذ ثمنه، فهذا مقصوده مقصود الربا، ومتى واطأه الآخر على ذلك كان مربيا، سواء اتفقا على أن يبيعه السلعة إلى أجل، ثم يبتاعها بأقل مما باعها، كما قالت أم ولد
nindex.php?page=showalam&ids=68زيد بن أرقم nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين! إني بعت من
nindex.php?page=showalam&ids=68زيد بن أرقم غلاما إلى العطاء بثمان مئة درهم، ثم ابتعته منه بست مئة درهم، فقالت لها
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أخبري
زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب .
وسئل
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس عمن
باع حريرة ثم ابتاعها بأقل، فقال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة.
[ ص: 225 ]
وسئل عن ذلك أنس بن مالك، فقال: هذا مما حرم الله ورسوله.
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: إذا استقمت بنقد ثم بعت بنقد فلا بأس به، وإذا استقمت بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم.
و"استقمت" بلغة أهل
مكة بمعنى قومت.
وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=35927 "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا". فمتى اتفقا على أن يبيعه السلعة ثم يبتاعها، فقد
باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما، وهو الثمن الأقل، مثل أن يتفقا على أن يبيعه إلى أجل بمئة، ويبتاعها بثمانين، فتعود السلعة إلى ربها بالبيع الثاني، ويعطى الطالب ثمانين، فليس له أن يطالبه إلا بالأوكس، وهو الثمانون.
وكذلك لو كان رب السلعة هو المحتاج، مثل أن يحتاج الجندي أو الفلاح أو نحو ذلك إلى القرض، فيقول: اشتر فرسي أو ثوري بثمانين حالة ثم بعنيه بمئة مؤجلة، فليس له إلا الثمانون. والشرط المتقدم على العقد كالمقارن له ما لم يفسخاه، والشرط العرفي الذي جرت به العادة بمنزلة اللفظي، والمقاصد في العقود معتبرة، فإنما الأعمال بالنيات.
وكذلك إذا اتفقا على أنه
يشتري سلعة من غيره بثمن حال، ثم يبيعه إياها إلى أجل بأكثر من ذلك الثمن، ثم إن المشتري يعيدها إلى صاحب الحانوت، فهذه الحيلة الثلاثية، ومتى درى صاحب الحانوت بقصدهما كان شريكهما في الربا.
[ ص: 226 ] وأما اشتراط الربح قبل أن يشتري البضاعة في مثل هذا، فلأن مقصودهما دراهم بدراهم إلى أجل. وأما إذا كان المشتري يشتري السلعة لينتفع بها أو يتجر فيها، لا ليبيعها في الحال ويأخذ ثمنها، فهذا جائز، والربح عليه إن كان مضطرا إليها يكون بالمعروف. فإذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير أو شراب عنده أو لباس، كان عليه أن يبيعهم إياه بقيمة المثل، فيربح الربح المعروف، وكذلك يربح على المسترسل الذي لا يماكسه، كما يربح على سائر الناس، فإن غبن المسترسل ربا.
وإذا تفرق المتبايعان عن تراض لزم، وكان على المشتري أن يوفيه جميع الثمن، ولا يحل له أن يمكسه شيئا منه، بل لا يحل له أن يسأله أن يضع عنه شيئا منه إذا كان غنيا، فإن
سؤال الغني لغيره حرام، وهذا يسأل غيره أن يسقط عنه حقه. ولا يحل له أن يمكن غلامه أن يطلب منه شيئا من الثمن، فإذا أعطاه البائع بطيب نفسه كان صدقة عليه، والصدقة أوساخ الناس، فإن اختار أن يقبل أوساخ الناس من غير حاجة فقد رضي لنفسه بما لا يرضى به العاقل.
وأما
إذا باعها إلى أجل معلوم لمن ينتفع بها أو يتجر فيها، فجائز; فإن باعها مزايدة لم ينضبط ذلك، وإن
باعها مرابحة كان الربح ما يتفقان عليه ويرضيان إذا لم يكن المشتري مضطرا، وإن كان مضطرا ربح عليه ما يربحه على غير المضطر. والله أعلم.
آخرها، لله الحمد والمنة، وصلواته على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
(علقها أحمد بن المحب من خط المجيب - رحمه الله - في ليلة حادي عشري رجب سنة 747) .
[ ص: 227 ]