وفي الأحاديث كثير، مثل قوله ... .
لكن هؤلاء [يرد] عليهم سؤالان عظيمان، سؤال متعلق بالأفعال والقدر، وسؤال متعلق بالأسماء والصفات.
أحدهما: أنه فعل ذلك، فلم لا حصل مراده مع قدرته عليه؟ فإذا كان مراده العبادة، فلم لا حصلت من جميعهم؟
وهذا السؤال لما استشعر الناس وروده، أجابوا عنه على أصولهم، فقال كثير ممن ينصر السنة:
إلا ليعبدون : إلا ليعرفون، يعني المعرفة العامة الفطرية الموجودة في المؤمن والكافر. وهذا القول ضعيف جدا، لأنه ذمهم على ترك ذلك، ولأن ذلك لم يوجد من المجانين ولا من الجاحدين، ولأنه أي مقصود له في ذلك حتى ينفي إطعامهم ويثبت ذلك، إذا كان الكل سواء؟
ومنهم من جعل الجن والإنس هنا خاصا لمن عبده، وهو ضعيف لوجوه.
ومنهم من قال: إلا لآمرهم بالعبادة. وهو قريب إذا تمم.
[ ص: 58 ]
وقالت
القدرية: ما أراد منهم كلهم إلا العبادة، لم يرد غير ذلك، لكن منهم من خالف مراده كما عصى أمره، ومنهم من لم يخالف.
فقيل لهم: ولم خلقهم للعبادة؟
فقالوا: لنفعهم.
قيل لهم: فقد أراد ما علم أنه لا يحصل.
وقيل لهم: لأي شيء أراد نفعهم؟ فاضطربوا.
ثم قيل لهم: فلم لا أعانهم على مراده؟
فقالوا: استفرغ وسعه، ولم يمكنه أن يجعل لهم إرادة، وإنما أمكنه أن يجبرهم ويضطرهم إلى الإيمان والعبادة، وتلك لا تنفعهم. وأما العبادة الاختيارية فلا يقدر عليها إلا هم، ولا يفعلها إلا هم. والتزموا من اللوازم الفاسدة ما يطول وصفه، ورد الناس عليهم ردودا يطول وصفها.
وقيل لهم: وقد قال تعالى:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ، وقال:
ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ، قال جمهور السلف: ما دل عليه الخطاب:
خلق فريقا للرحمة، وفريقا للاختلاف.
فقالوا: هذه لام العاقبة والصيرورة، لا لام الغرض والقصد
[ ص: 59 ] والإرادة، فإن الفاعل الذي يقصد غاية تكون اللام في فعله للتعليل والإرادة، إذ هي العلة الغائية، والذي لا يقصدها تكون اللام في فعله لام العاقبة.
فيقال لهم: لام العاقبة إما أن تكون من جاهل بالعاقبة، كقوله:
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ، أو من عاجز عن دفع العاقبة السيئة، كقولهم :
لدوا للموت وابنوا للخراب
وقولهم :
وللموت ما تلد الوالده
فأما العالم القادر فعلمه بالعاقبة وقدرته على وجودها ودفعها، يبتغي أن لا يكون مريدا لها.
فافترق القدرية فرقتين:
منهم من اختار أنه لم يكن عالما بما يؤول إليه الأمر من الطاعة والمعصية.