[ ص: 60 ]
ومنهم من اختار أنه لا يقدر على أن يفعل بهم غير ما فعل من الإعانة، وهؤلاء أكثر القدرية.
ولا بد من
بيان الكلام في ذلك على أصول العربية التي نزل بها القرآن، فإن هذه اللام التي ينصب بها الفعل تسميها النحاة لام [كي] ، وهي في الحقيقة لام الجر، أضمر بعدها "أن" فانتصب الفعل، ولهذا تليها الأسماء المجردة، كما في قوله:
لجهنم .
والمجرور بها تارة يكون سببا فاعليا، كما تقول: فعلت هذا لأني اشتهيته وأحببته. وقد يكون سببا غائيا، كما تقول: فعلت هذا ليرضي زيدا وليحسن إلي.
وأما المنصوب على المفعول له فلا يكون إلا لسبب الفاعل، كقوله:
ابتغاء مرضات الله ونحو ذلك، والفرق بينهما مذكور في غير هذا الموضع.
وأما الذين أجروا الآية على مقتضاها مع الإيمان بالسنة، وقالوا: المراد أن يعبد ويحمد ويشكر، فمنهم من يقول: قد وجد ذلك من بعضهم. ومنهم من يقول: مقصوده أمرهم بذلك، لا نفس وجود المأمور به.
والتحقيق أن اللام هنا لام إرادة المحبة والرضا والأمر، لا لام الإرادة العامة الشاملة للكائنات. واللام في قوله:
ولذلك خلقهم ولقد ذرأنا لجهنم لام الإرادة العامة الشاملة، فتلك الإرادة
[ ص: 61 ] الدينية، وهذه الإرادة الكونية، ويجب الفرق بين اللامين والعلتين والغايتين، كما فرق بين الأمرين والإرادتين والحكمين والبعثين والإرسالين. وليس كل ما يحبه ويرضاه ويفرح به لخلقه يكون، وإنما كل ما شاء يكون.
وقد روينا في كتاب القدر عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس: أن الأنبياء
موسى وعزيرا والمسيح سألوا عن هذه المسألة، فقالوا: أي رب! أنت رب عظيم، لو تشاء أن تطاع لأطعت، ولو تشاء أن لا تعصى لما عصيت، وأنت تحب أن تطاع، وأنت مع ذلك تعصى؟ فأوحى الله إليهم: "إن هذا سري، فلا تسألوني عن سري".
وذلك أنه وإن أحث عبادتهم، فلا يجب في كل ما أحبه الحي أن يفعله، بل قد يكون في حقنا من يترك محبوبه لمعارض راجح، أو يتركه فلا يفعله لا لمعارض راجح، ولا نقص في ذلك، كالأفعال الحسنة التي تستحب لنا، كما قال الله تعالى:
ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد .وقال:
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء .
[ ص: 62 ]
وأيضا فإن الله يحب هذه الأعيان والأفعال والصفات بتقدير وجودها، كما يسمع المسموعات ويبصر المدركات بتقدير وجودها، وأما ما لم يوجد منها وقد علم أنه لا يوجد، فلا يقال: إنه يحب العدم المحض والنفي الصرف، كما لم يتعلق به حمد ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، والله خلق الجن والإنس، والغاية المحبوبة منهم التي بها يكملون ويصلحون وينالون الكرامة ويحبهم الحق أن يعبدوه، فإذا لم يبلغوا هذه الغاية لم يبلغوا سعادتهم، ولا محبوب الحق منهم. ثم إن منهم من شاء كون العبادة أمنه، فأعانه، ومنهم من لم يشأ كون ذلك منه فلم يعنه، ولكنه من ذرئه لجهنم.