وكذلك القلوب فطرت على الصحة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
nindex.php?page=hadith&LINKID=651296 "كل مولود يولد على الفطرة" ،
فهي مع السلامة لا تطمئن إلا بذكر الله، ولا تسكن إلا إليه، ولا تتأله إلا إياه، وافتقارها إلى معرفته وذكره وعبادته لا يشبهه شيء من الأشياء. فماذا قلنا: كافتقار الجائع إلى الطعام، والعطشان إلى الماء، والمغتلم إلى الجماع، كان ذلك كله تمثيلا ناقصا.
وكما أن هذه المفتقرات إلى هذه الأمور تفسد إذا لم يحصل ما يصلحها، ففساد النفوس إذا لم تعرف الله وتحبه وتعبده أعظم بكثير كثير، وهذا حال كل من في السماوات والأرض من الملائكة والجن
[ ص: 122 ] والإنس، لا يجوز أن يصلح حالهم إلا بأن يكون الله إلههم ومعبودهم، وتكون حركاتهم لأجله عبادة له تجمع كمال محبته وكمال الذل له، فإن العبادة تجمع كمال الحب وكمال الذل، وهذا شأن المراد لذاته المقصود لذاته، وكل ما سواه فمفتقر إلى هذا المراد المحبوب المعبود لذاته، فلا يكون هو مرادا محبوبا لذاته، فإن محبته مستلزمة محبة محبوبه ومعبوده الذي هو أكمل منه، بل هو معبود له. والفساد أن يكون كل من الشيئين محبوبا، والتابع لغيره محبوب لذاته، والمتبوع محبوب لغيره.
وهذا الأصل هو أصل أصول الشرائع والملك، فإن
الرسل جميعهم إنما بعثوا لأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وكما أنه مبرهن بالمعقول والقياس والنظر، فهو أيضا معروف بالوجد والإحساس والذوق، فإن العبد يحس من قلبه فقرا ذاتيا إلى ذكره وعبادته، غير فقره إليه من جهة إعطائه سؤله، وجلب المنافع له، ودفع المضار عنه، فإن الفقر إليه من هذا الوجه هو أظهر في الابتداء، ولكن الإنسان يجد نفسه إلى أي موجود توجه بقلبه وذكره، لا يجد الطمأنينة ولا السكينة حتى يذكر الله ويوجه قلبه إليه، فإنه يجد الطمأنينة والسكينة فلا يبقى عنده منازعة إلى شيء آخر.
فكما أن السائل الداعي الراغب في قضاء حاجته إذا توجه إلى الله بصدق اطمأن طمأنينة من وصل إلى من نال منه المطالب والحاجات، فكذلك المريد المحب [السائل] لما يطمئن إليه إذا توجه إلى الله
[ ص: 123 ] بصدق، اطمأن طمأنينة من حصل بغيته ووجد محبوبه ومألوهه وطلبته، وهذا الأصل إنما يستقر لأهل الملل أتباع ملة
إبراهيم، أهل الحنيفية، فأما غيرهم فلا، حتى المتفلسفة الإلهيون ومن سلك سبيلهم من أهل الملل مع دعواهم أنهم حققوا المعارف اليقينية والحكمة الحقيقية، وقالوا: سعادة النفوس كمالها علما وعملا، هم من أبعد الناس عن هذا، وذلك أن عندهم غاية سعادة النفوس نيل العلم فقط، وحقيقة العلم بالكليات التي لا وجود لها في الخارج كليات، والوجود الذي يثبتونه لواجب الوجود هو من هذا النمط.
ويقولون: غاية الإنسان أن يصير عاقلا معقولا موازيا للعالم الموجود.
ويقولون: كمال الإنسان أن يتشبه بالخالق بحسب الإمكان.