وبالجملة فالمشروع من هذا الباب هو
الاعتكاف الشرعي الذي كان يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وأما ما كان يفعله
بحراء قبل المبعث، فلسنا مأمورين باتباع ذلك، فإنه
من حين بعث إلى الخلق وجب على الخلق كلهم طاعته واتباعه، والعبادة بما شرعه بعد المبعث دون العبادة التي لم يشرعها هو، ولو أراد أحد أن يفعل
بغار حراء ما
[ ص: 136 ] كانوا يفعلونه في الجاهلية من المجاورة فيه، وترك الجمعة والجماعة، لنهي عن ذلك.
وقد كانوا في الجاهلية، كما قال
أبو طالب في قصيدته الطويلة :
وراق ليرقى في حراء ونازل
والمقصود هنا بيان ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع من أن
إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى.
وفي الحديث حكاية بلغتنا لا أعلم إسنادها هو ثابت أم لا، لكن المعنى المقصود منها صحيح، وهو أن
nindex.php?page=showalam&ids=14847أبا حامد الغزالي قال: لما بلغني هذا الخبر أخلصت أربعين صباحا، فلم أجد شيئا، فذكرت ذلك لبعض شيوخ أهل المعرفة، فقال لي: يابني، إنك لم تخلص لله، وإنما أخلصت للحكمة.
فإن هذا المعنى حق، وهو أن الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول، ثم الحكمة وغير ذلك يتبع ذلك، لا أن يكون غيره هو المقصود بالقصد الأول، ويجعل قصد الله وسيلة إلى ذلك.
وإن كان الناس قد يؤمرون بما يؤمرون به من الطاعة والعبادة لأمور أخرى تكون هي مطلوبهم ومقصودهم، بل قد ينازع الناس في
[ ص: 137 ] أنه هل يمكن أن يكون الله سبحانه هو المقصود المراد بالقصد الأول، بحيث يراد لذاته فيحب لذاته؟ فذهب طوائف كثيرون من أصناف المتفقهة والمتكلمة وغيرهم إلى امتناع ذلك، وأنكروا أن يكون الله محبوبا لذاته، وهذا هو المشهور من قول
المعتزلة ومن اتبعهم من المتكلمة
والجهمية والفقهاء وغيرهم، ولم يجعلوا المقصود بالقصد الأول- وهو الغاية التي يطلبها العباد- إلا ما يحصل من تنعمهم بالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، مما وعدوا به في الجنة، وجعلوا جميع ما أمروا به من العبادات والطاعات تكاليف إنما تفعل لتحصيل هذه الغاية المطلوبة.