فإن قيل: فالعشق الموجود، وهو محبة المعشوق لنفسه، وكما قد يتحاب الشخصان لذواتهما لا لأجل نكاح وتناسل، فيحب كل منهما الآخر لنفسه.
قيل: هذا قصد فاسد، وحب فاسد، وإرادة فاسدة، فإن كل من أحب مخلوقا لنفسه لا لأمر آخر وراء ذلك، فحبه فاسد، وقصده
[ ص: 187 ] فاسد، ونحن إنما ذكرنا امتناع الدور الغائي لبيان فساد هذا ونحوه،
وامتناع أن يكون لله ند يحب كحب الله الذي تجب محبته لذاته، ونحن إذا قلنا: إن الدور في العلل الغائية ممتنع، كان المراد به أنه يمتنع أن يكون كل منهما مرادا مطلوبا للآخر محبوبا للآخر بإرادة صحيحة، وقصد صحيح، ومحبة صحيحة، فأما الفاسد من الإرادة فهو نظير من يعتقد جواز كون كل من الشيئين علة للآخر، وقد منعنا أن يكون علة في نفس الأمر أو فاعلا له في نفس الأمر، وإن كان من الناس من يعتقد أنه فاعل له ورب له، لكن هذا اعتقاد فاسد، فكذلك من ظن في شيء غير الله أنه مقصود لنفسه، معبود لنفسه، محبوب لنفسه، حتى أحبه وعبده وعشقه، فهذا أيضا جاهل في ذلك ضال فيه، كما أن الأول جاهل في ظنه أن غير الله رب. ولهذا لما تكلم الناس في العشق [هل] هو لفساد الإدراك، وهو تخيل المعشوق على خلاف ما هو به، أو لفساد في الإرادة، وهو المحبة المفرطة الزائدة على الحق كان الصواب أن العشق يتناول النوعين، وهو فساد في الإدراك والتصور، وفساد في الإرادة والقصد، ولهذا كان سكرا وجنونا ونحو ذلك مما يتضمن فساد الإدراك والإرادة، حتى قيل :
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين
ولهذا سماه الله مرضا في قوله:
فيطمع الذي في قلبه مرض ، ولهذا إنما يوجد كثيرا في أهل الشرك الذين ليس في قلوبهم ما تسكن
[ ص: 188 ] إليه من إخلاص العبادة لله والطمأنينة بذكره، كما ذكر الله ذلك في كتابه عن امرأة العزيز والنسوة اللاتي كن مشركات، وأخبر عن نوع هؤلاء بالسكر والجهل كما في قوله تعالى:
لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون .
وبهذا الفرقان يتبين أن
القول الحق أنه لا إله إلا الله، مع كون المخلوقات فيها ما اتخذ آلهة من دون الله، فإن الإله يجب أن يكون معبودا، وهو المعبود لذاته الذي يحب غاية الحب بغاية الذل، وهذا لا يصلح إلا لله، ومن عبد غيره واتخذه إلها فهو لفساد عمله وقصده، حيثما اتخذ إلها فأحبه لذاته، وبذل له غاية الحب بغاية الذل لجهله وضلاله، ولهذا سموا جاهلية إذ كان أصل قصدهم جهلا لا علما.