ومن بطر الحق فجحده فإنه يضطر إلى أن يقر بالباطل، ومن غمط الناس فاحتقرهم وازدراهم بغير حق فإنه يضطر إلى أن يعظم آخرين بالباطل، وهذا من الشرك. فمن غمط الناس جحد حقهم ليعظم نفسه بذلك، وهذا هو الاستكثار والاختيال، فلا بد له ممن يعينه على استكباره واختياله للشرك به، وهو يفرح بمن يحمده ويثني عليه ويعظمه، ويشنأ من يذمه ويبغضه ويعيبه، فيكون من أعظم رياء وسمعة، والرياء والسمعة من الشرك، فالمستكبر من أعظم الناس شركا ورياء وسمعة. وإبليس هو الذي يزين كل شرك وكل كبر لبني آدم، وينفخ في أحدهم حتى يتعاظم، ويدعوهم إلى الإشراك بالله ويأمرهم بذلك، كما قال تعالى:
ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم [ ص: 229 ] بطرا ورئاء الناس . وهذا من أعظم الشرك بغير الله، وإن كان قد يشرك به أيضا، فهو يجمع الإشراك بالله وبغيره ممن أطاع الخلق وعظمهم، فمن أطاعهم اقتدى بهم،
ومن أطاع الرسل اقتدى بهم في توحيدهم وطاعتهم لربهم، ومن عصاهم ضل، فجميع من عصى الرسل ولم يقتد بهم فهو مشرك.
وقد استقرت الشريعة على أن كل من ليس من أهل الكتاب فهو مشرك يعبد ما يستحسن، كما يذكر الفقهاء ذلك في باب أخذ الجزية، فليس لأحد أن يخرج أحدا من هؤلاء عن الإشراك، وذلك لأن العبد هو حارث وهمام حساس متحرك بالإرادة، وليس كل مراد مرادا لغيره، بل لا بد أن تنتهي الإرادة إلى مراد لذاته هو المطاع المحبوب المعظم، وذلك هو إله العبد الذي يعبده. فكل من لم يكن الله إلهه الذي يعبده الذي هو منتهى قصده وإرادته، فلا بد أن يكون مشركا ينتهى قصده وإرادته إلى غيره، سواء كان ملكا له أو وثنا أو غيره.
ومن هذا الباب قول فرعون:
ما علمت لكم من إله غيري ، وقوله:
أنا ربكم الأعلى . ويشبهه في ذلك من بعض الوجوه
النمروذ وجنكزخان ملك المغل من
الترك وأمثاله، فهؤلاء قومهم مشركون بهم، وقد قال تعالى في النصارى:
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم [ ص: 230 ] الآية ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في عبادتهم إياهم:
"إنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم " . فكيف بمن يكون هو المطاع المطلق في أمره ونهيه وتحليله وتحريمه؟ ويكون قومه يقاتلون الناس على أن يكون الدين والطاعة لله وحده بحيث يستبيحون دم كل من خرج عن طاعته!