فصل
وصف الله سبحانه أنبياءه ورسله والعلماء من عباده بأنهم إذا سمعوا آيات الله خروا سجدا وبكيا، كما قال تعالى لما ذكر الأنبياء في سورة مريم:
أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا . وصف جميع هؤلاء الذين هم صفوة خلقه وخيرهم بأنهم إذا سمعوا آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، وهذا نظير ما وصف به علماء أهل الكتاب بقوله:
إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا إلى قوله:
ويزيدهم خشوعا ، أي إذا سمعوا القرآن سجدوا وبكوا.
وهذا مما أمر الله به الناس عموما، وذم من لم يفعل ذلك في قوله:
فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون .
فذم من إذا قرئ عليه القرآن لا يسجد، كما مدح النبيين وغيرهم من المؤمنين بالسجود إذا سمعوه. والسجود وإن كان مشروعا عند استماع هذه الآيات السجدات وواجب عند بعض العلماء، فلا يجوز أن يكون
[ ص: 293 ] المراد بهذه الآيات ونحوها مجرد
سجود التلاوة، لأنه تعالى وصفهم بأنهم إذا تليت عليهم خروا سجدا، وأخبر أنه لا يؤمن بآياته إلا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا، وهذا يعم الآيات التي شرع فيها سجود التلاوة وغيرها، ولا يجوز حمله على تلك الآيات فقط، لأنها قليلة يسيرة من حيث آيات الله عز وجل.
وكذلك ما وصف به أهل العلم وكذلك ما حض عليه الناس بقوله:
فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ، فيه من العموم والتحضيض ما لا يجوز حمله على مجرد سجود التلاوة، يوضح ذلك أنه لما أثنى على النبيين وأهل العلم وصفهم بالسجود والبكاء، ولما أخبر عما لا بد منه من الإيمان وما يذم من تركه ذكر السجود فقط، فقال:
إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ، وقال:
وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون . بل هذا- والله أعلم- كما شرعه
لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله:
اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى أن قال:
كلا لا تطعه واسجد واقترب ، فأمره بالقراءة والسجود، وعلى ذلك بنيت الصلوات، فأعظم أركانها القولية القراءة، وأعظم أركانها الفعلية السجود، وهما أفضل أعمال الصلاة. وقد تنازع [العلماء] أيهما
[ ص: 294 ] أفضل: طول القراءة أو كثرة الركوع والسجود أو هما سواء؟ على ثلاثة أقوال، أصحها التسوية، كما كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع.