[ ص: 176 ] فالتحقيق: أن السبب الذي فعلوه إذا لم يكن منهيا عنه، لم يكن على صاحبه إثم فيما يتولد عنه من موت، أو سكر، أو غشي، أو نحو ذلك.
وأما إذا كان السبب محظورا، لم يكن صاحبه معذورا، كما في زوال العقل بالسكر، ونحوه.
فمن شرب محرما يزيل عقله، كان مذموما على زوال عقله.
ومن أوجر الخمر، أو أسقي ما ظنه مباحا، فتبين محظورا، ونحو ذلك، لم يكن مذموما على زوال العقل.
فكما يعرض مغيب العقل عند السماع لما يرد على القلب، فكذلك يعرض مغيبه عند مشاهدة أمور، وعند ورود أمور عليه من غير سماع ظاهر; إذ السماع يورث معارف وأحوالا، وكذلك تحصل هذه في غير السماع.
وإذا كان زوال العقل غير مقدور وصاحبه في الشرع معذور، لم يجز أن يجعل آثما بذلك، ولا معاقبا عليه، بل ولا منهيا عنه، ولا مذموما عليه.
بخلاف من يكون قد حصل له ذلك بسبب محظور، كمن يسمع السماع المنهي عنه، سماع المكاء والتصدية، فيورثه هذه الأحوال التي يزول فيها عقله. فهذا مذموم على ذلك.
لكن إن كان متأولا معتقدا جواز ذلك، لاجتهاد أو تقليد، أو غير
[ ص: 177 ] عالم بما في ذلك من النهي الشرعي، كان له حكم أمثاله من أهل التأويل وعدم العلم.
وإذا كان مخطئا معفوا له عن خطئه، عفي له عما يترتب على خطئه، لكن قد يضمن ما تلف بخطئه من حقوق العباد في أنفسهم وأموالهم، كما أوجب الله الدية في القتل خطأ.
وأما إذا كان الإتلاف بتأويل من جهتين، فله حكم قتال الفئة من أهل التأويل، كالجمل وصفين. والصحيح: أنه هدر من الجانبين.
وهذا حكم ما يعتري أهل الأحوال في حال سكر السماع، من عدوان بعضهم على بعض، كما هو مذكور في غير هذا الموضع.
وجماع ذلك:
أن الأمر والنهي مشروطان بالتمكين من العلم والعمل، فإذا كان العبد عاجزا عن أحدهما، لم يكلف الكف عما هو عاجز عنه.
وإذا عجز عن حفظ عقله، أو عن حمل ما يرد عليه، أو عن العلم بحاله -عجزا يعذر فيه شرعا- لم يكن معاتبا بما يترتب على زوال العقل، بحسب المزيل للعقل، هل هو معفو عنه، أو محظور. وقد يظن صاحبه أنه مأمور به أو مباح لاجتهاد أو تقليد، ولكن في نفس الأمر لا يأمر الله عز وجل بما يزيل العقل، ولا يبيح ذلك.
[ ص: 178 ]