[ ص: 333 ] مسألة: في قول أبي حنيفة
في « الفقه الأكبر» في الاستواء
[ ص: 334 ] مسألة: فيمن
أورد مسألة من « الفقه الأكبر» nindex.php?page=showalam&ids=11990لأبي حنيفة رحمه الله، أن قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى [طه: 5] ينفي أن الله فوق السموات فوق العرش، وأن الاستواء على العرش دل على أنه نفسه فوق العرش. فأنكروا عليه وقالوا: هذا كفر. وأيضا: لا يجوز أن يقال عن الله « نفسه» فيكون تشبيها، فهل هو كفر أم لا؟
الجواب: الحمد لله.
من كفر
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة ونحوه من أئمة الإسلام الذين قالوا: إن [الله] فوق العرش، فهو أحق بالتكفير; فإن أئمة الإسلام الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، ولهم في الأمة لسان صدق من الصحابة والتابعين وتابعيهم، كالخلفاء الراشدين:
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر nindex.php?page=showalam&ids=7 [وعثمان] nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي، nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ونحوهم، ومثل
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن [ ص: 336 ] المسيب nindex.php?page=showalam&ids=14102والحسن البصري nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم النخعي nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء بن أبي رباح، ومثل
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث بن سعد nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة، ومثل
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل nindex.php?page=showalam&ids=12418وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد، وأمثال هؤلاء من كفرهم فقد خالف إجماع الأمة وفارق دينها، فإن المؤمنين كلهم يعظمون هؤلاء ويحسنون القول فيهم، وتكفيرهم هو من جنس قول
الرافضة الذين يكفرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا، ومن جنس
الخوارج الذين يكفرون
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي بن أبي طالب ومن والاهما من المسلمين، فيقتلون أهل الإسلام ويدعون عبدة الأوثان.
وهؤلاء قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيهم من غير وجه، قال فيهم: «
nindex.php?page=hadith&LINKID=653341يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم [فاقتلوهم] فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة».
وهذا القول المذكور عن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة هو قول سائر أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن سميناهم ومن لم نسمهم، كلهم متفقون على أن الله فوق سماواته على عرشه. لم يقل أحد منهم: إن الله بذاته في الأرض، ولا أنه ليس فوق العرش.
[ ص: 337 ]
والقرآن والسنة المتواترة قد دلت على مثل ما أجمع عليه هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم، والعقول والفطرة تشهد بذلك; فإن الله سبحانه كان قبل أن يخلق السموات والأرض ثم خلقهما، ولا يجوز أن يكون خلقهما ثم دخل فيهما; فإنه سبحانه مقدس عن ذلك. فعلم أنه خلق الخلق ولم يدخل فيهم، بل هو بائن عن الخلق، وهو عليم بأحوالهم، كما قال:
هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم [الحديد: 4].
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين أخذ عنهم تفسير القرآن على أن معنى الآية: أنه مع الخلق بعلم وهو فوق العرش، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.
وأما قول القائل: لا يجوز أن يقال عن الله: « نفسه» فيكون تشبيها.
فهذا ضال مفتر، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل; فإن الله تعالى قال:
كتب ربكم على نفسه [الأنعام: 54]، وقال لموسى:
واصطنعتك لنفسي [طه: 41]، وقال تعالى:
ويحذركم الله نفسه [آل عمران: 30]، وقال المسيح عليه السلام:
تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [المائدة: 116].
[ ص: 338 ]
وقد ثبت في « الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «
nindex.php?page=hadith&LINKID=661913سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضا نفسه». وفي « الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «
nindex.php?page=hadith&LINKID=656854ما أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه».
وفي « صحيح مسلم» أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: «
nindex.php?page=hadith&LINKID=14872اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».
وفي « الصحيحين» أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «
nindex.php?page=hadith&LINKID=687960يقول الله: أنا عند ظن عبدي المؤمن، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».
وفي « صحيح مسلم» عن
nindex.php?page=showalam&ids=1584أبي ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: «
nindex.php?page=hadith&LINKID=661682يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا». [ ص: 339 ]
وفي « الصحيحين» عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «
nindex.php?page=hadith&LINKID=656855لما خلق الله الخلق كتب كتابا على نفسه فهو موضوع عنده فوق العرش: أن رحمتي تغلب غضبي». وجاء هذا من أحاديث لا تحصى. [وأمثال ذلك مما لا يحصى وهذا مما اتفق عليه المسلمون].
وقد ذهب طائفة من المنتسبين إلى السنة: أن النفس لله كسائر الصفات الخبرية، والمشهور عند أهل السنة وجمهور الناس: [أن] نفسه هو سبحانه، فإذا قال: (الاستواء) دل على أنه نفسه فوق العرش، فلم يرد بهذا اللفظ معنى آخر بل هو سبحانه نفسه، والعرب تقول: رأيت فلانا نفسه، وفلانا عينه، فيكون ذلك توكيدا له، أي رأيته هو ولم أر غيره. فإذا قال: « على أنه نفسه فوق العرش» كان توكيدا للكلام، أي هو فوق العرش ليس الذي فوق العرش غيره.
وهذا لا ينازع فيه مسلم، فمتى قال: « إن الله فوق العرش» [أراد] أنه نفسه فوق العرش، لم يقل: إن الذي فوق العرش شيء غيره. وقد قال سبحانه وتعالى:
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم [ ص: 340 ] استوى على العرش [يونس: 3]، والذي خلق السموات هو الذي استوى على العرش، والذي خلق هو نفسه، والذي استوى هو نفسه.
وقد ذكر غير واحد إجماع أهل السنة والجماعة على أن الله نفسه استوى على عرشه موافقا لما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة. ومن ينازع في ذلك وزعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى ربه، وزعم أنه ليس فوق السموات رب يعبد، ولا إله يصلى له ويسجد، وأنه ليس هناك إلا العدم المحض والنفي الصرف. وهذا قول
الجهمية الضالة الذين يؤول قولهم إلى جحد الصانع وإنكار الخالق. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وأما قول الجاهل: إن هذا تشبيه. فيقال له: التشبيه المنفي عن الله ليس هو بالموافقة في الأسماء، فإن الله تعالى قد سمى نفسه وسمى بعض عباده فقال:
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم [البقرة: 255]، وقال:
لينذر من كان حيا [يس: 70]، وسمى نفسه: سميعا بصيرا، وقال:
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها إلى قوله:
إن الله كان سميعا بصيرا [النساء: 58]، وسمى الإنسان: سميعا بصيرا فقال:
إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا [الإنسان: 2]. وسمى نفسه
[ ص: 341 ] بالرؤوف الرحيم فقال:
إن الله بالناس لرءوف رحيم [الحج: 65]، وسمى نبيه صلى الله عليه وسلم بالرؤوف الرحيم فقال:
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [التوبة: 128]، [وكذلك سمى نفسه عليما حليما] وسمى بعض [عباده] بالعليم وبالحليم كما قال:
فبشرناه بغلام حليم [الصافات: 101]، وفي موضع:
بغلام عليم [الحجر: 53]، وسمى نفسه الملك فقال:
الملك القدوس السلام [الحشر: 23]، وسمى بعض خلقه بالملك فقال:
وقال الملك ائتوني به [يوسف: 50]، وسمى نفسه بـ
العزيز الجبار المتكبر [الحشر: 23]، وسمى بعض خلقه العزيز:
قالت امرأت العزيز [يوسف: 51]، وسمى نفسه بـ (المؤمن) ، وسمى بعض خلقه بالمؤمن، فقال تعالى:
وقال رجل مؤمن [غافر: 28]، وأمثال هذا.
ومعلوم أن هذا باتفاق المسلمين لا يقتضي أن يكون مثل خلقه; لأن
الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [الإخلاص: 3 - 4]،
[ ص: 342 ] فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا [مريم: 65].
فإذا كانت هذه الأسماء دالة على الصفات لا توجب ما ينفى عنه من التشبيه بخلقه، فكيف اسم « النفس» يوجب التشبيه المنفي عنه!؟
وليس في هذا الاسم من الدلالة على الصفات ما في تلك الأسماء; فإن هذا الاسم يقال لكل موجود، لو قال: هذا الكون نفسه، وهذا الكوكب نفسه، وهذا الإنسان نفسه، فهو بمنزلة الذات والشيء ونحو ذلك من الأسماء العامة.
ومعلوم أن التشبيه بالأسماء التي تكون لبعض الأحياء أولى منه بالأسماء العامة التي تطلق على كل شيء، فإذا كانت الأسماء الخاصة لا يقع بالموافقه فيها من التشبيه ما يجب نفيه عن الله تعالى، فكيف بالأسماء العامة؟ والمسلمون نفوا التشبيه عن الله، مثل الشيء يجوز عليه [ما يجوز عليه]، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه; فلو كان لله مثل للزم أن يجب لكل منهما القدم والحدوث والإمكان والوجوب والعدم، وذلك جمع بين النقيضين وهو محال.
فوجب
نفي التشبيه عن الله لأنه محال في العقل، والله سبحانه وتعالى قد تنزه عنه بقوله:
ليس كمثله شيء [الشورى: 11].
[ ص: 343 ]
وأما التشبيه بأسمائه التي سمى بها نفسه، وإن تسمى بها بعض المخلوقين، فهذا ليس بمحال في شرع ولا عقل. ومن قال: إن هذا تشبيه يجب نفيه عن الله; فهو كاذب مفتر ضال باتفاق سلف الأمة وأئمتها. والله أعلم.
* * *