صفحة جزء
فصل

قال الله تعالى في سورة النساء بعد الآية التي أمر فيها بقواعد الشريعة واعبدوا الله ولا تشركوا به : إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله [النساء :36 - 37] ، وقال في سورة الحديد : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إلى قوله : والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل [الحديد :21 - 24] . ففي كلا الموضعين وصف المختال الفخور بأنه يبخل ويأمر الناس بالبخل ، وهذا -والله أعلم- يوافق ما رواه أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من الخيلاء ما يحبها الله ، ومن الخيلاء ما يبغضها الله ، فأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل نفسه في الحرب ، واختياله نفسه عند الصدقة -أو كما قال- ، وأما الخيلاء التي يبغضها الله فالخيلاء في البغي والفخر » . [ ص: 65 ]

فإنه أخبر أن من الخيلاء ما يحبها الله ، وهي الخيلاء في السماحة والشجاعة ، ولذلك قال لأبي دجانة يوم أحد لما اختال بين الصفين ، فقال : «إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن » . ولهذا جوزنا في أحد القولين ما رويناه عن عمر من لبس الحرير في الحرب ، لأن الخيلاء التي فيه محبوبة في الحرب ، كما دل عليه الحديثان . وذلك -والله أعلم- لأن الاختيال من التخيل ، والتخيل من باب التصور الذي قد يكون تصورا للموجود ، وقد يكون تصورا للمقصود ، فإن كان مطابقا للموجود ومحمودا في القصد فهو تخيل حق نافع ، وإن كان مخالفا للموجود ومذموما في القصد فهو الباطل الضار . والشجاعة والسماحة لا بد فيها من قوة للنفس لا تتم إلا بتصور محبوب يحضه على الشجاعة والسماحة ، وإلا ففي هذا بذل النفس وفي هذا بذل المال الذي هو مادة النفس ، فإن لم تتصور النفس أمرا محبوبا يعتاض به عما يبذله من النفس والمال لم يأت بالشجاعة والسماحة . فيحب الله تخيل المقاصد الرفيعة والمطالب العالية التي تحض على الشجاعة والسماحة ، فإن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها ، ويحب معالي الأمور . [ ص: 66 ]

فهذا إذا كان تخيل مقصود ، وأما إذا كان تخيل موجود فلأن الشجاعة التي مضمونها النصرة ودفع الباطل والضرر ، والسماحة التي مضمونها الرزق وإقامة الحق والنفع ، هما عظيمان في أنفسهما ، وإليهما ترجع صفات الكمال من جلب المنفعة ودفع المضرة ، فإذا كان تخيل الفاعل نفسه عظيما عند صدور ذلك منه كان مطابقا ، فكان اعتقادا صحيحا نافعا ، ولهذا لم يذكر أن الله يحبه إلا في الحرب والصدقة ، لأنه في هذا الموطن هو صحيح نافع ، لأنه يحض على المحبوب ، وما أعان على المحبوب محبوب ، فأما بعد صدور ذلك منه فإنه فخر أو من ، والله لا يحب الفخور ولا المنان . وصار في هذه المنزلة بمنزلة شهوة الطعام عند الأكل ، وشهوة النكاح عند مباضعة الرجل أهله ، فإن ذلك نافع ، به تحصل المصلحة ، بخلاف الشهوة في حال الزنا وأكل مال الغير .

فلما قال سبحانه : والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل [الحديد :23 - 24] ، والبخل منع النافع ، قيد هذا بهذا .

وقد كتبت فيما قبل هذا من التعاليق الكلام في التواضع والإحسان والكلام في التكبر والبخل . [ ص: 67 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية