صفحة جزء
26 - ( فصل )

وقد ذهب طائفة من قضاة السلف العادلين إلى الحكم بشهادة الشاهد الواحد ، إذا علم صدقه من غير يمين .

قال أبو عبيد : روينا عن عظيمين من قضاة أهل العراق : شريح ، وزرارة بن أبي أوفى رحمهما الله ، أنهما قضيا بشهادة شاهد واحد . ولا ذكر لليمين في حديثهما .

حدثنا الهيثم بن جميل عن شريك عن أبي إسحاق قال : أجاز شريح شهادتي وحدي . حدثنا القاسم بن حميد عن حماد بن سلمة عن عمران بن حدير ، قال : شهد أبو مجلز عند زرارة بن أبي أوفى ، قال أبو مجلز : فأجاز شهادتي وحدي . ولم يصب .

قلت : لم يصب عندي أبو مجلز ، وإلا فإذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد جاز له الحكم بشهادته ، وإن رأى تقويته باليمين فعل . وإلا فليس ذلك بشرط . والنبي صلى الله عليه وسلم لما حكم بالشاهد واليمين لم يشترط اليمين ، بل قوى شهادة الشاهد .

وقد قال أبو داود في " السنن " : باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به ثم ساق حديث خزيمة بن ثابت : { أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي ، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي ، وأبطأ الأعرابي ، فطفق رجال يعترضون الأعرابي ، فيساومونه بالفرس ، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه ، فنادى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي ، فقال : أوليس قد ابتعته منك ؟ قال الأعرابي : لا والله ، ما بعتك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بلى ، قد ابتعته منك . فطفق الأعرابي يقول : هلم شهيدا ، فقال خزيمة بن ثابت : أنا أشهد أنك قد بايعته . فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة ، فقال : بم تشهد ؟ قال : بتصديقك يا رسول الله ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين } . ورواه النسائي . وفي هذا الحديث عدة فوائد : منها : جواز شراء الإمام الشيء من رجل من رعيته . ومنها : مباشرته الشراء بنفسه .

ومنها : جواز الشراء ممن يجهل ، ولا يسأل من أين لك هذا ؟ ومنها : أن الإشهاد على البيع ليس بلازم . [ ص: 69 ]

ومنها : أن الإمام إذا تيقن من غريمه اليمين الكاذبة لم يكن له تعزيره ، إذ هو غريمه ، ومنها : الاكتفاء بالشاهد الواحد إذا علم صدقه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال لخزيمة : أحتاج معك إلى شاهد آخر ، وجعل شهادته بشهادتين . لأنها تضمنت شهادته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق العام فيما يخبر به عن الله ، والمؤمنون مثله في هذه الشهادة .

وانفرد خزيمة بشهادته له بعقد التبايع مع الأعرابي ، دون الحاضرين ، لدخول هذا الخبر في جملة الأخبار التي يجب على كل مسلم تصديقه فيها ، وتصديقه فيها من لوازم الإيمان ، وهي الشهادة التي تختص بهذه الدعوى ، وقد قبلها منه وحده . والحديث صريح فيما ترجم عليه أبو داود رحمه الله .

وليس هذا الحكم بالشاهد الواحد مخصوصا بخزيمة ، دون من هو خير منه أو مثله من الصحابة ، فلو شهد أبو بكر وحده ، أو عمر أو عثمان أو علي أو أبي بن كعب لكان أولى بالحكم بشهادته وحده . والأمر الذي لأجله جعل شهادته بشاهدين موجود في غيره ، ولكنه أقام الشهادة وأمسك عنها غيره ، وبادر هو إلى وجوب الأداء ، إذ ذلك من موجبات تصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الأعرابي وحده على رؤية هلال رمضان . وتسمية بعض الفقهاء ذلك إخبارا ، لا شهادة : أمر لفظي لا يقدح في الاستدلال . ولفظ الحديث يرد قوله .

وأجاز شهادة الشاهد الواحد في قضية السلب ، ولم يطالب القائل بشاهد آخر ، ولا استحلفه ، وهذه القصة صريحة في ذلك . ففي " الصحيحين " عن أبي قتادة قال : { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام حنين ، فلما [ ص: 70 ] التقينا كانت للمسلمين جولة ، قال : فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين ، فاستدرت له حتى أتيته من ورائه ، فضربته بالسيف على حبل عاتقه ، فأقبل علي ، فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت ، فأرسلني . فلحقت عمر بن الخطاب ، فقلت : ما بال الناس ؟ قال : أمر الله ، ثم إن الناس رجعوا ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه قال : فقمت ، ثم قلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ، ثم قال الثالثة مثله ، فقمت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لك يا أبا قتادة ؟ فقصصت عليه القصة ، فقال رجل من القوم : صدق يا رسول الله ، وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه عني ، فقال أبو بكر الصديق : لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق . فأعطه إياه .

قال أبو قتادة : فأعطانيه . فبعت الدرع ، فابتعت به مخرفا في بني سلمة ، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام
} .

وهذا يدل على أن البينة تطلق على الشاهد الواحد ، ولم يستحلفه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أحد الوجوه في هذه المسألة ، وهو الصواب : أنه يقضي له بالسلب بشهادة واحد ، ولا معارض لهذه السنة ، ولا مسوغ لتركها ، والله أعلم .

وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة المرأة الواحدة في الرضاع ، وقد شهدت على فعل نفسها ، ففي " الصحيحين " { عن عقبة بن الحارث : أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب ، فجاءت أمة سوداء ، فقالت : قد أرضعتكما ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عني ، قال : فتنحيت ، فذكرت ذلك له قال : فكيف ؟ وقد زعمت أن قد أرضعتكما } .

وقد نص أحمد على ذلك في رواية بكر بن محمد عن أبيه ، قال في المرأة تشهد على ما لا يحضره الرجال من إثبات استهلال الصبي ، وفي الحمام يدخله النساء ، فتكون بينهن جراحات .

وقال إسحاق بن منصور : قلت لأحمد في شهادة الاستهلال : تجوز شهادة امرأة واحدة في الحيض والعذرة والسقط والحمام ؟ وكل ما لا يطلع عليه إلا النساء ؟ فقال : تجوز شهادة امرأة إذا كانت ثقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية