سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الثاني والعشرون في سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما في سبعين ومائة راكب إلى العيص ، فأخذوا العير وما فيها وأخذوا يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية وأسروا ناسا منهم أبو العاص بن الربيع .

قال ابن إسحاق : لما كان قبل الفتح خرج أبو العاص بن الربيع تاجرا بمال له وأموال لرجال من قريش أبضعوها معه . فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصابوا ما معه . وذكر الزهري وتبعه ابن عقبة أن الذين أخذوا هذه العير وأسروا من فيها أبو بصير وأبو جندل وأصحابهما بمنزلهم بسيف البحر ، وأنهما لم يقتلا منهم أحدا لصهر أبي العاص .

قال ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر : إنه هرب منهم من السرية . فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على امرأته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستجار بها فأجارته . قال ابن إسحاق ومحمد بن عمر : فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فكبر وكبر الناس معه صرخت زينب من صفة النساء ، وعند محمد بن عمر : قامت على بابها فنادت بأعلى صوتها وقالت : أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع .

قال : فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس فقال : «يا أيها الناس هل سمعتم ما سمعت ؟ » قالوا : نعم . قال : «أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم ، المؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم» زاد محمد بن عمر :

«وقد أجرنا من أجارته»
.

انتهى .

قال ابن إسحاق ومحمد بن عمر : ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله ، فدخلت عليه زينب فسألته أن يرد على أبي العاص ما أخذ منه فقبل . وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أي بنية أكرمي مثواه ، ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له» .

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص ، فقال لهم : «إن هذا الرجل منا حيث علمتم وقد أصبتم له مالا ، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له؛ فإنا نحب ذلك ، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم فأنتم أحق به» . فقالوا : يا رسول الله بل نرده عليه .

وعند ابن عقبة : فكلمها أبو العاص في أصحابه الذين أسرهم أبو جندل وأبو بصير وما أخذا لهم . فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ،

فخطب الناس وقال : «إنا صاهرنا ناسا وصاهرنا أبا العاص فنعم الصهر وجدناه ، وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش ، فأخذهم أبو جندل وأبو بصير فأسروهم وأخذوا ما كان معهم ولم يقتلوا منهم أحدا ، وأن زينب بنت رسول الله سألتني أن أجيرهم فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه ؟ »

فقال [ ص: 84 ]

الناس : نعم . فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عنده من الأسرى ، رد إليهم كل شيء حتى العقال .
قال ابن إسحاق ومحمد بن عمر :

فردوا عليه كل شيء حتى إن الرجل ليأتي بالدلو ويأتي الرجل بالشنة والإداوة حتى إن أحدهم ليأتي بالشظاظ حتى ردوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئا .

قال ابن هشام : حدثني أبو عبيدة أن أبا العاص بن الربيع لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين قيل له : هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال؛ فإنها أموال المشركين ؟ فقال أبو العاص : بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي . قال ابن هشام : وحدثني عبد الوارث بن سعيد التنوري عن [داود] بن أبي هند ، عن أبي عمرو وعامر بن شراحيل الشعبي بنحو من حديث أبي عبيدة عن أبي العاص قلت : هذا سند صحيح ، رواه أبو عبد الله الحاكم في الكنى بسند صحيح عن الشعبي رحمه الله تعالى أن المسلمين قالوا لأبي العاص : يا أبا العاص ، إنك في شرف من قريش وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره ، فهل لك أن تسلم وتغنم ما معك من أموال أهل مكة ؟ فقال : بئس ما أمرتموني به أن أفتتح ديني بغدرة .

قال ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر ، والشعبي : ثم احتمل أبو العاص إلى مكة فأدى إلى كل ذي حق حقه . ثم قام فقال : «يا أهل مكة هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه ؟ يا أهل مكة هل أوفيت ذمتي ؟ » قالوا : اللهم نعم ، فجزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيا كريما . قال :

«فإني أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا أني خشيت أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم ، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت» .

ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة . قال ابن عباس : رد رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على النكاح الأول لم يحدث شيئا . وفي رواية عنه ردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ست سنين . وفي رواية بعدها : ستة بالنكاح الأول ، وفي الرواية : ولم يحدث نكاحا . رواه ابن جرير .

التالي السابق


الخدمات العلمية