سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
قلت : وأمره- صلى الله عليه وسلم- من لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة ، رواه عنه خلائق من الصحابة .

وقد اختلف العلماء في ذلك . فقال مالك ، والشافعي ، كان ذلك من خصائص الصحابة ، ثم نسخ جواز الفسخ كغيرهم ، وتمسكوا بما رواه مسلم ، عن أبي ذر لم يكن فسخ الحج إلى العمرة إلا إلى أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- .

وأما الإمام أحمد فرد ذلك وجوز الفسخ لغير الصحابة .

وهناك دعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثا ، وللمقصرين مرة .

فأما نساؤه فأحللن وكن قارنات إلا عائشة فإنها لم تحل من أجل تعذر الحل عليها بحيضتها ، وفاطمة حلت ، لأنها لم يكن معها هدي ، وعلي لم يحل من أجل هديه ، وأمر من أهل بإهلال كإهلاله- صلى الله عليه وسلم- أن يقيم على إحرامه ، إن كان معه هدي ، وأن يحل من لم يكن معه هدي .

قلت : ورواه الطبراني- برجال ثقات- والله تعالى أعلم .

وسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل يوم التروية بيوم ، فقلنا غدا إن شاء الله تعالى بالخيف حيث استقسم المشركون ، ثم سار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والناس معه حتى نزل الأبطح شرقي مكة في قبة حمراء من أدم ضربت له هناك ، وهناك كما قال ابن كثير- قدم علي من اليمن ببدن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- محرشا لفاطمة فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «صدقت» ثلاثا «أنا أمرتها ، يا علي بم أهللت ؟ » ، قال : قلت : اللهم إني أهل بما أهل به رسولك قال : ومعي هدي قال : «فلا تحل» ، فكان جملة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي ساقه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من المدينة مائة بدنة ، وكان يصلي مدة مقامه هنا إلى يوم التروية بمنزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين بظاهر مكة ، فأقام بظاهر مكة أربعة أيام يقصر الصلاة . الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء .

قلت : ولم يعد إلى الكعبة كما في الصحيح عن ابن عباس .

وفي حديث أبي جحيفة عند الإمام أحمد ، والشيخين ، أنه أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالأبطح وهو في قبة له حمراء فخرج بلال بفضل وضوئه فمن ناضح ومن نائل ، قال : فأذن بلال ، فكنت أتتبع فاه ها هنا وها هنا- يعني يمينا وشمالا- ثم خرج بلال بالعنزة بين يديه . [ ص: 468 ]

فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه حلة حمراء ، فكأني أنظر إلى بريق ساقيه ، فصلى بنا الظهر والعصر ركعتين ركعتين تمر المرأة والكلب والحمار من وراء العنزة ، فقام الناس فجعلوا يأخذون بيده فيمسحون بها وجوههم ، قال : فأخذت يديه فوضعتها على وجهي ، فإذا هي أبرد من الثلج ، وأطيب ريحا من المسك ،
والله تعالى أعلم .

قلت : قال ابن سعد : فلما كان قبل يوم التروية بيوم خطب بمكة بعد الظهر فلما كان يوم الخميس ضحى توجه بمن معه من المسلمين إلى منى فأحرم بالحج من كان أحل منهم في رحالهم ، ولم يدخلوا المسجد فأحرموا منه ، بل أحرموا ومكة خلف ظهورهم فلما وصل إلى منى نزل بها فصلى بها الظهر والعصر ، وبات بها ، وكانت ليلة الجمعة ، فلما طلعت الشمس ساروا منها إلى عرفة وأخذ على طريق ضب على يمين طريق الناس اليوم ، وكان من الصحابة الملبي والمكبر ، وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء .

قلت : وفي حديث ابن عباس قال : غدا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة من منى ، فلما انبعثت به راحلته وعليها قطيفة قد اشتريت بأربعة دراهم ، قال : «اللهم اجعله حجا مبرورا ، لا رياء فيه ولا سمعة» رواه الطبراني بسند جيد .

وفي حديث جابر ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أتى نمرة ، فوجد القبة قد ضربت له هناك بأمره فنزل فيها ، حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي من أرض عرفة .

قال ابن سعد : فوقف بالهضبات من عرفات وقال : «كل عرفة موقف إلا بطن عرنة» أي بالنون قال ابن تيمية وهو يعني بطن عرنة وادي من حدود عرفة .

فخطب الناس قبل الصلاة على راحلته خطبة عظيمة .

قلت : وهو قائم في الركابين- كما عند أبي داود- عن العداء بن خالد- رضي الله تعالى عنه- .

ونص الخطبة بعد الحمد لله ، والثناء عليه ، «أيها الناس : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليردها لمن ائتمنه عليها ، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي ، وإن أول دمائكم أضع ، وفي رواية : وإن أول [ ص: 469 ] دم أضع من دمائنا دم ربيعة ، وفي رواية : دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان مسترضعا في بني سعد بن بكر فقتلته هذيل .

وعند ابن إسحاق ، والنسائي ، في بني ليث فقتلته هذيل ، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية ، وإن كل ربا موضوع ، ولكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا ، وإن أول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله .

أما بعد أيها الناس الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ولكنه إن يطمع فيما سوى ذلك فقد رضي بما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم ، أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ، ويحرمونه عاما ، ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، وفي رواية «إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية : ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» .

«أما بعد أيها الناس : اتقوا الله واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهم شيئا وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» . وفي رواية «بكتاب الله ، ولكم عليهن حق ، ولهن عليكم حق ، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف .

فاعقلوا أيها الناس قولي- فإني قد بلغت- وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي أبدا- إن اعتصمتم به- أمرين ، وفي رواية أمرا بينا كتاب الله عز وجل وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم- .


أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه ، تعلمن أن كل مسلم أخ لمسلم ، وفي رواية : أخو المسلم وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس ، فلا تظلمن أنفسكم واعلموا أن القلوب لا تغل على ثلاث : إخلاص العمل لله عز وجل ومناصحة أولي الأمر ، وعلى لزوم جماعة المسلمين ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ، ومن تكن الدنيا نيته يجعل الله فقره بين عينيه ويشتت عليه ضيعته ، ولا يأتيه منها إلا ما كتب له ، ومن تكن الآخرة نيته يجعل الله غناه في قلبه ، ويكفيه ضيعته وتأتيه الدنيا وهي راغمة ، فرحم الله امرأ سمع مقالتي حتى يبلغه غيره ، ورب حامل فقه وليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، [ ص: 470 ] أرقاءكم أرقاءكم أطعموهم مما تأكلون ، واكسوهم مما تلبسون ، فإن جاء بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ، ولا تعذبوهم ، أوصيكم بالجار- حتى أكثر- فقلنا إنه سيورثه .

أيها الناس : إن الله قد أدى لكل ذي حق حقه ، وإنه لا يجوز وصية لوارث ، والولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله ، والملائكة ، والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، العارية مؤداة ، والنحلة مردودة ، والدين مقضي والزعيم غارم .

أما بعد : فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من ها هنا عند غروب الشمس حتى تكون الشمس على رءوس الجبال مثل عمائم الرجال على رءوسها . هدينا مخالف هديهم ، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام عند طلوع الشمس على رءوس الجبال مثل عمائم الرجال على رءوسها . ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير فأخر الله هذه وقدم هذه ، يعني : قدم المزدلفة قبل طلوع الشمس ، وأخر عرفة إلى أن تغيب الشمس ، وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغيب الشمس ، وندفع من المزدلفة حتى تطلع الشمس ، وهدينا مخالف لهدي الأوثان والشرك» .

قلت : وفي حديث المسور بن مخرمة- رضي الله تعالى عنه- قال : خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أما بعد : فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من هذا الموضع إذا كانت الشمس على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها ، وإنا ندفع بعد أن تغيب وكانوا يدفعون من المشعر الحرام إذا كانت الشمس منبسطة» ، رواه الطبراني برجال الصحيح .

«وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟ » قالوا : نشهد أنك بلغت ، وأديت ، ونصحت ، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها على الناس «اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، اللهم اشهد» . ثلاث مرات .

قلت : روى البيهقي ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خطب بعرفات ، فلما قال : «لبيك اللهم لبيك ، قال إنما الخير خير الآخرة» .

قال أبو محمد : وأرسلت إليه أم الفضل بنت الحارث الهلالية وهي أم عبد الله بن عباس بقدح لبن فشربه أمام الناس ووهماه في ذلك وقال : «إنما كان ذلك بعد ذلك حين وقف بعرفة كما سيأتي» . [ ص: 471 ]

وروى ابن إسحاق عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : كان الرجل الذي يصرخ في الناس (تحت لبة ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ) بقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو بعرفة : ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي قال : يقول له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (اصرخ . وكان صيتا ) قل أيها الناس إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول : هل تدرون أي شهر هذا ؟ فيقول لهم وفي رواية فيصرخ فيقولون نعم الشهر الحرام ، فيقول قل لهم إني وفي رواية : فإن الله قد حرم .

«فلما أتمها أمر بلالا فأذن ثم أقام الصلاة فصلى الظهر ، ركعتين أسر فيهما بالقراءة وكان يوم جمعة ، فلما فرغ من صلاته ركب حتى أتى الموقف ، فوقف في ذيل الجبل عند الصخرات واستقبل القبلة» .

قلت : في حديث جابر ، وجعل بطن ناقته القصواء وهو عليها إلى الصخرات وجعل جبل المشاة بين يديه .

التالي السابق


الخدمات العلمية