الباب الثاني في فوائد تتعلق بكرامات الأولياء نفعنا الله تعالى بهم
اعلم أن الكرامة الواقعة لولي هي في الحقيقة من معجزات النبي الذي هذا الولي متبع له؛ لأنها إنما ظهرت بسبب اتباعه وبركته ، وقد اختلف فيها ، فذهب
أهل السنة إلى جوازها ، وأنكرها
المعتزلة وأبو إسحاق بناء على أن
nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين في «الإرشاد» يميل إلى قريب منهم ، وممن نقل جوازها إمام المتكلمين القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=12604أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي والقشيري في رسالته ،
والرازي ، ونصر الدين الطوسي في قواعد العقائد ،
والنسقي ، والبيضاوي في طوالعه ومصابيحه ، والشيخ
أبو الوليد بن رشد ، ونص كلامه في أجوبته أن إنكارها ، والتكذيب بها بدعة وضلالة يثبتها في الناس أهل الزيغ والتعطيل الذين لا يقرون بالوحي والتنزيل ، ويجحدون آيات الأنبياء والمرسلين ، انتهى .
والدليل على جوازها وقوعها؛ إذ لو لم تكن جائزة لم تقع ، وقد ثبت وقوعها بالكتاب
[ ص: 238 ] والأحاديث والآثار المسندة الخارجة عن الحصر والتعداد ، وآحادها وإن لم تتوافر فالمجموع يفيده القطع بلا إشكال .
أما الكتاب فقصة أهل الكهف ، وقصة
الخضر مع
موسى عليهما الصلاة والسلام ، وقصة
ذي القرنين ، وما أخبر الله في
مريم بقوله :
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ، قال يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت هو من عند الله [آل عمران 37] قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وغيره : وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، وقوله تعالى :
وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا [مريم 25] وقصة
آصف بن برخيا عليه السلام مع
سليمان عليه السلام في إحضاره عرش
بلقيس قبل ارتداد الطرف ، كما قال عز وجل :
قال الذي عنده علم من الكتاب : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك [النمل 40] وأما السنة ، فقد روى الشيخان من حديث
جريج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=653210«كان في الأمم محدثون ، فإن يكن في أمتي أحد منهم فعمر ابن الخطاب رضي الله عنه» .
واحتجت
المعتزلة بأن الخوارق لو ظهرت على يد غير الأنبياء لالتبس النبي بالمتنبئ؛ لأن
تمييز الأنبياء عن غيرهم إنما هو بسبب ظهور خوارق العادات منهم ، إذ الأمة تشاركهم في الإنسانية ولوازمها ، ولولا ظهور المعجزة منهم لما تميزوا عن غيرهم ، فلو جاز أن يظهر الخارق للعادة على غيرهم لالتبس النبي بالمتنبئ ، والجواب : لا نسلم حصول اللبس ، بل يتميز النبي بالتحدي ، ودعوى النبوة هنا هو
الفرق بين المعجزة والكرامة ، واختلف في تجويز الكرامات على حكم الاختيار ، شرط الكرامة صدورها بلا اختيار من الولي ، وأن الكرامة تفارق المعجزة من هذا الوجه ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين في الإرشاد : وهذا غير صحيح قال : وصار صائرون إلى جواز وقوعها اختيارا ، ومنع وقوعها على قضية الدعوى ، ورأوا أن الدعوى هي الفرق بينها وبين المعجزة ، وهذه الطريقة غير مرضية أيضا ، وصار بعض أصحابنا إلى أن ما وقع معجزة لنبي لا يجوز تقدير وقوعه كرامة لولي ، فيمتنع عند هؤلاء أن ينفلق البحر ، وقلب العصا ثعبانا ، وإحياء الموتى وإلى غير ذلك ، وهذه الطريقة غير سديدة أيضا ، والمرضي عندنا تجويز جملة خوارق العوائد في معارض الكرامات ، وفي «رسالة
القشيري» : اعلم أن كثيرا من المقدورات يعلم اليوم قطعا أنه لا يجوز أن يظهر كرامة للأولياء بضرورة أو شبه ضرورة ، فمنها حصول إنسان من غير أبوين ، وقلب جماد بهيمة أو حيوانا ، وأمثال هذا كثير ، وشرط الكرامة أن يصحب صاحبها (السر) من الله تعالى وإلا فهو ناقص مغرور وهالك مقبور .
وظهور الكرامة لا تدل على أفضلية صاحبها ، وإنما تدل على صدقه وفضله ، وقد تكون لقوة يقين صاحبها ، وإنما الأفضلية بقوة اليقين ، وكمال المعرفة ، ولهذا قال أستاذ هذه الطريق
[ ص: 239 ] أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى : مشى رجال باليقين على الماء ، ومات بالعطش أفضل منهم؛ لأنهم يقصدون ادخار الكرامة للآخرة ، ويدلك على ما ذكرنا من أن الكرامة لا تدل على الأفضلية كثرة الكرامات ، بعد زمن الصحابة .
قال الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل : وذلك لأن إيمان الصحابة قوي بخلاف إيمان من بعدهم ، فاحتاجوا إلى زيادة تقوى إيمانهم ، وأيضا فلأن الزمان الأول كثير النور لا يفتقرون لزيادة تقوى ، ولو حصلت لم تظهر لاضمحلالها في زمن النبوة بخلاف الظلام ، والنجوم لا يظهر لها ضوء مع الشمس ، ولهذا قال بعض المشايخ في
مريم ابنة عمران رضي الله عنها : إنها كانت في بدايتها يصرف إليها بخرق العادة بغير سبب ، تقوية لإيمانها ، فكانت
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ، قال : يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله ، ولما قوي إيمانها ردت البيت ، فقيل لها :
وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا [مريم 25] ، ولهذا سأل
موسى ربه مع كمال رتبته بقوله :
رب أرني أنظر إليك [الأعراف 143]
لما أنزلت إلي من خير فقير [القصص 24] قال علي وغيره : والله ما طلب إلا خبزا يأكله ، ونادى باسم الربوبية ، فإن الرب من رباك بإحسانه ، وغناك بإنعامه ، فإن قلت : فلأي شيء لم يطلب
الخليل عليه الصلاة والسلام حين رمي بالمنجنيق في النار ، قد تعرض له
جبريل ، وقال : ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا ، وأما إلى الله فلي ، قال : سله قال :
حسبي من سؤالي علمه بحالي ؟ فالجواب : أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعاملون كل مقام بما يفهمون عن الله تعالى أنه الأليق بهم ، ففهم
إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن مراد الحق في ذلك المقام ، عدم إظهار الطلب والاكتفاء بالعلم ، فكان فهمه لأن الحق أراد أن يظهر من قوله :
إني أعلم ما لا تعلمون [البقرة 30] في جواب :
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء [البقرة 30] قال سيدي
أبو الحسن الشاذلي : فكأنه يقول : يا من قال :
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كيف رأيتم
إبراهيم خليلي ؟ وإنما تصدر الكرامة وإخفاءها ، نص على ذلك
القشيري وغيره ، وقد يكون بقلب العين وهي الأرض وكلام الجماد ، وبرء العلل ، ونبع الماء والاطلاع على الضمائر ، وجفاف البحر ، وكلام الموتى ، ففي رسالة الشيخ
أبي القاسم القشيري رحمه الله تعالى بإسناده أن
أبا عبيدة السري رحمه الله تعالى غزا سنة ، فجرح في السرية فمات المهر ، وهو في السرية فقال : يا رب ، أعرني إياه إلى
[بسر يعني قريته] فإذا المهر قائم ، فلما غزا ورجع قال لابنه : خذ السرج عن المهر ، فقال : إنه عرق ، فقال :
إنه عارية ، فلما أخذ السرج وقع ميتا .
[ ص: 240 ]
وفيها أيضا عن الشيخ
سعيد الحراز ، قال : كنت مجاورا
بمكة ، حرسها الله تعالى ، فجزت يوما بباب بني شيبة ، فرأيت شابا حسن الوجه ميتا ، فنظرت له ، فنظر في وجهي وتبسم ، وقال : أما علمت أن الأحباب أحياء وإن ماتوا ، وإنما ينقلون من دار إلى دار .
وفيها أيضا عن بعضهم : كنا في مركب فمات رجل معنا فأخذنا في جهازه وقصدنا أن نلقيه ، فصار البحر جافا ، ونزلت السفينة ، فخرجنا وحفرنا له قبرا ودفناه ، فلما فرغنا جاء الماء وارتفع واستوى المركب وسرنا ، والحكايات كثيرة وما ذكر كفاية .