الباب الثاني في بيان ما هو في حقه -صلى الله عليه وسلم- سب من المسلم
[اعلم -وفقنا الله وإياك- أن جميع
من سب النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عابه ، أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه ، أو خصلة من خصاله ، أو عرض به ، أو شبهه بشيء على طريق السب له ، أو الإزراء عليه ، أو التصغير لشأنه ، أو الغض منه ، والعيب له ، فهو ساب له ، والحكم فيه حكم الساب ، يقتل كما نبينه ، ولا نستثني فصلا من فصول هذا الباب على هذا المقصد ، ولا نمتري فيه تصريحا كان أو تلويحا .
وكذلك من لعنه أو دعا عليه ، أو تمنى مضرة له ، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم ، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ، ومنكر من القول وزور ، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه ، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه .
وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا .
وقال
أبو بكر بن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن
من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل ، وممن قال ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس ، والليث ، nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد ، وإسحاق ، وهو مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
قال
القاضي أبو الفضل : وهو مقتضى قول
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ولا تقبل توبته عند هؤلاء المذكورين .
وبمثله قال
أبو حنيفة ، وأصحابه ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري وأهل الكوفة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي في المسلم ، لكنهم قالوا : هي ردة .
روى مثله
nindex.php?page=showalam&ids=15500الوليد بن مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك .
وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري مثله عن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة وأصحابه فيمن تنقصه صلى الله عليه وسلم ، أو برئ منه أو كذبه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15968سحنون فيمن سبه : ذلك ردة كالزندقة .
وعلى هذا وقع الخلاف في استتابته وتكفيره ، وهل قتله حد أو كفر ، كما سنبينه في الباب الثالث إن شاء الله تعالى ، ولا نعلم خلافا في استباحة دمه بين علماء الأمصار وسلف الأمة ، وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره ، وأشار بعض الظاهرية- وهو
أبو محمد علي بن أحمد الفارسي إلى الخلاف في تكفير المستخف به .
[ ص: 24 ]
والمعروف ما قدمناه ، قال
محمد بن سحنون : أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص له كافر . والوعيد جار عليه بعذاب الله ، وحكمه عند الأمة القتل ، ومن شك في كفره وعذابه كفر .
واحتج
إبراهيم بن حسين بن خالد الفقيه في مثل هذا بقتل
خالد بن الوليد مالك بن نويرة لقوله- عن النبي صلى الله عليه وسلم : صاحبكم .
وقال
أبو سليمان الخطابي : لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلما .
وقال ابن القاسم- عن مالك في كتاب
ابن سحنون ، والمبسوط ، والعتبية ، وحكاه
مطرف عن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك في كتاب
nindex.php?page=showalam&ids=13056ابن حبيب : من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين قتل ، ولم يستتب .
قال
ابن القاسم في العتبية : من سبه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل ، وحكمه عند الأمة القتل كالزنديق .
وقد
فرض الله تعالى توقيره وبره . وفي المبسوط- عن
عثمان بن كنانة : من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين قتل أو صلب حيا ولم يستتب والإمام مخير في صلبه حيا أو قتله .
ومن رواية
أبي المصعب ، وابن أبي أويس : سمعنا
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالكا يقول : من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو شتمه ، أو عابه ، أو تنقصه- قتل مسلما كان أو كافرا ، ولا يستتاب .
وفي كتاب
محمد : أخبرنا أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك أنه قال : من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من النبيين من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب .
وقال
أصبغ : يقتل على كل حال أسر ذلك أو أظهره ، ولا يستتاب؛ لأن توبته لا تعرف .
وقال
عبد الله بن الحكم : من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب .
وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري مثله عن
أشهب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك .
وروى
ابن وهب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : من قال : إن رداء النبي صلى الله عليه وسلم- .
ويروى زر النبي صلى الله عليه وسلم- وسخ ، أراد عيبه- قتل .
وقال بعض علمائنا : أجمع العلماء على أن
من دعا على نبي من الأنبياء بالويل ، أو بشيء من المكروه- أنه يقتل بلا استتابة .
وأفتى
أبو الحسن القابسي فيمن قال في النبي صلى الله عليه وسلم : الحمال يتيم
أبي طالب بالقتل .
[ ص: 25 ]
وأفتى
أبو محمد بن أبي زيد بقتل رجل سمع قوما يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم إذ مر بهم رجل قبيح الوجه واللحية ، فقال لهم : تريدون تعرفون صفته ، هي في صفة هذا المار في خلقه ولحيته . قال : ولا تقبل توبته .
وقد كذب- لعنه الله ، وليس يخرج من قلب سليم الإيمان .
وقال
أحمد بن أبي سليمان صاحب سحنون : من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسود يقتل .
وقال في رجل قيل له : لا ، وحق رسول الله . فقال : فعل الله برسول الله كذا وكذا- وذكر كلاما قبيحا ، فقيل له : ما تقول يا عدو الله ؟ فقال أشد من كلامه الأول ، ثم قال : إنما أردت برسول الله العقرب . فقال ابن أبي سليمان الذي سأله : اشهد عليه وأنا شريكك- يريد في قتله وثواب ذلك .
قال
حبيب بن الربيع : لأن ادعاءه التأويل في لفظ صراح لا يقبل؛ لأنه امتهان ، وهو غير معزز لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا موقر له ، فوجب إباحة دمه .
وأفتى
أبو عبد الله بن عتاب في عشار قال لرجل : أد واشك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : إن سألت أو جعلت فقد جهل وسأل النبي صلى الله عليه وسلم- بالقتل .
وأفتى فقهاء
الأندلس بقتل
ابن حاتم المتفقه الطليطلي وصلبه بما شهد عليه به من استخفافه بحق النبي صلى الله عليه وسلم وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم ، وختن حيدرة ، وزعمه أن زهده لم يكن قصدا ، ولو قدر على الطيبات أكلها ، إلى أشباه لهذا .
وأفتى فقهاء القيروان وأصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=15968سحنون بقتل
إبراهيم الفزاري ، وكان شاعرا متفننا في كثير من العلوم ، وكان ممن يحضر مجلس
القاضي أبي العباس بن طالب للمناظرة ، فرفعت عليه أمور منكرة من هذا الباب في الاستهزاء بالله وأنبيائه ونبينا صلى الله عليه وسلم ، فأحضر له القاضي
يحيى بن عمر وغيره من الفقهاء ، وأمر بقتله وصلبه ، فطعن بالسكين ، وصلب منكسا ، ثم أنزل وأحرق بالنار .
وحكى بعض المؤرخين أنه لما رفعت خشبته ، وزالت عنها الأيدي استدارت ، وحولته عن القبلة ، فكان آية للجميع ، وكبر الناس ، وجاء كلب فولغ في دمه ، فقال
يحيى بن عمر :
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وذكر حديثا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :
لا يلغ الكلب في دم مسلم .
وقال القاضي
أبو عبد الله بن المرابط : من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم هزم يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه تنقص ، إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته ، إذ هو على بصيرة من أمره ، ويقين من عصمته .
[ ص: 26 ]
وقال
حبيب بن ربيع القروي : مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وأصحابه أن من قال فيه صلى الله عليه وسلم : ما فيه نقص قتل دون استتابة .
وقال
ابن عتاب : الكتاب والسنة موجبان أن من قصد النبي صلى الله عليه وسلم بأذى أو نقص ، معرضا أو مصرحا ، وإن قل- فقتله واجب ، فهذا