سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات

الأول : الحمية قسمان : حمية عما يجلب المرض ، وهي حمية الأصحاء ، وحمية عما يزيده وهي حمية المرض ، فإذا حمي وقف مرضه عن التزايد وأخذت القوى في دفعه ، وأمثلتها قوله تعالى : وإن كنتم مرضى إلى قوله : فتيمموا [النساء 43] فحمي المريض من استعمال الماء .

قال بعض فضلاء الأطباء : رأس الطب الحمية ، وأنفع ما يكون الحمية للناقة من المرض؛ لأن التخليط يوجب الانتكاس ، والانتكاس أصعب من ابتداء المرض ، والفاكهة تضر بالناقه من المرض لسرعة استحالتها وضعف الطبيعة عن دفعها لعدم القوة .

الثاني : إنما منع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليا -رضي الله تعالى عنه- من الفاكهة لأنها نوع ثقيل على المعدة ، ولم يمنعه من السلق والشعير؛ لأنه من أنفع الأغذية للناقه ، ففي ماء الشعير [ ص: 131 ] التغذية والتلطيف والتليين وتقوية الطبيعة ، فالحمية من أكبر الأدوية مثل الدوالي يمنع زائده وانتشاره .

الثالث : وقال ابن القيم : ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرا مما يحمى عنه العليل والناقه والصحيح إذا اشتدت الشهوة إليه ، ومالت إليه الطبيعة ، فتناول منه الشيء اليسير الذي لا تعجز الطبيعة عن هضمه لم يضره تناوله ، بل ربما انتفع به ، فإن الطبيعة والمعدة تتلقيانه بالقبول والمحبة فيصلحان ما يخشى من ضرره ، وقد يكون أنفع من تناول ما تكرهه الطبيعة ، وتدفعه من الداء ، ولهذا أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- صهيبا ، وهو أرمد على تناول التمرات اليسيرة ، وعلم أنها لا تضره؛ فإن المريض إذا تناول ما يشتهيه عن جوع صادق وكان فيه ما كان أنفع وأقل ضررا مما لا يشتهيه ، وإن كان نافعا في نفسه فإن صدقت شهوته ومحبة الطبيعة له تدفع ضرره وكذلك العكس .

الرابع : لم يكره مالك الماء المشمس مطلقا وصححه النووي في الروضة ، وحكاه الروياني في البحر عن النص ، ومذهب الشافعي كراهة استعماله في البلاد والأوقات الحارة ، وفي الأواني المنطبعة على الأصح ، دون الحجر والخشب ونحوهما ، واستثني النقدان لصفائهما ، ولا يكره في الأحياض والبرك قطعا ، والكراهة مخصوصة بالثوب لا البدن ، ولوقت حرارته ، لو برد فلا كراهة على ما صححه في الروضة ، وصحح في الشرح بقاءها ، وخصه صاحب التهذيب بالإناء المنسد الرأس لحبس الحرارة به ، وفي شرح المهذب : الكراهة شرعية يثاب تاركها ، وفي شرح التنبيه : إذا اعتبرنا القصد فشرعية وإلا فإرشادية ، وهي للتنزيه ، فلا تمنع صحة الطهارة ، وقال الطبري : إن خاف الأذى جزم ، وقال ابن عبد السلام : لو لم يجد غيره وجب استعماله .

الخامس : قوله «كله» رفع توهم المجاز في البعض ، ولم يعين في شيء من الروايات الجناح الذي فيه الشفاء ، لكن ذكر بعض العلماء أنه تأمله فوجده يتقي بجناحه الأيسر ، فعلم أن الشفاء في الأيمن .

السادس : روى أبو يعلى عن ابن عمر مرفوعا : «الذباب غالب عمره أربعون ليلة ، والذباب كله في النار إلا النحل» وسنده لا بأس به ، قال الجاحظ : كونه في النار ليس تعذيبا له ، بل ليعذب به أهل النار ، [قال أفلاطون : الذباب أحرص الأشياء ، حتى أنه يلقي نفسه في كل شيء ، ولو كان فيه هلاكه] . ويتولد من العفونة [ولا جفن للذبابة لصغر حدقتها ، والجفن يصقل الحدقة ، فالذبابة تصقل بيديها فلا تزال تمسح عينيها] ومن عجيب أمره أن رجيعه يقع على الثوب الأسود أبيض وبالعكس ، وأكثر ما يظهر في أماكن العفونة ، ومبدأ خلقه منها ، ثم من [ ص: 132 ] التوالد وهو أكثر الطير سفادا [وربما بقي عامة اليوم على الأنثى] ويحكى أن بعض الخلفاء سأل الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه- لأي علة خلق الذباب ؟ فقال : لمذلة الملوك ، وكانت ألحت عليه ذبابة قال الشافعي -رحمه الله تعالى- : سألني ولم يكن عندي جواب فاستنبطت ذلك من الهيئة الحاصلة . [ ص: 133 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية