تنبيهات
الأول : قال
السيد نور الدين السمهودي في «تاريخ المدينة» : وإن صح ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب؛ فالقبر الشريف له به علاقة روحانية ، وله نسبة إليه مع أنا قطعنا بوصفه- صلى الله عليه وسلم- به فنستصحبه؛ حتى يقوم قاطع على خلافه وساق ما أخبر به سعيد بن المسيب من سماعه الأذان والإقامة من القبر أيام الحرة مع أنه قد جاء عن غير
nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب ما يقتضي الاستمرار ، فقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان أيام حصاره : لن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيها .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13359ابن عساكر بسند جيد عن
nindex.php?page=showalam&ids=115بلال أنه لما نزل ب «داريا» من أرض
الشام رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يقول : ما هذه الجفوة يا بلال ؟ أما آن لك أن تزورني ؟ ! فانتبه حزينا خائفا ، فركب راحلته وقصد المدينة ، فأتى قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فجعل يبكي ويمرغ وجهه عليه ، فأقبل الحسن والحسين ، فجعل يضمهما ويقبلهما ، فقالا : نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المسجد ، فعلا سطح المسجد ووقف موقفه الذي كان يقف فيه ، فلما أن قال :
الله أكبر ، ارتجت المدينة؛ فلما أن قال :
أشهد أن لا إله إلا الله؛ ازدادت رجتها ، فلما أن قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، خرجت العواتق من خدورهن ، وقالوا : بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما رئي يوم أكثر باكيا ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من ذلك اليوم .
[ ص: 360 ]
وقال الإمام العلامة
جمال الدين محمود بن جملة :
نبينا- صلى الله عليه وسلم- أحياه الله تعالى بعد موته حياة تامة ، واستمرت تلك الحياة إلى الآن ، وهي مستمرة إلى يوم القيامة ، وليس هذا خاصا به- صلى الله عليه وسلم- بل يشاركه الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- أجمعين .
والدليل على ذلك أمور كثيرة :
أحدها : قوله تعالى :
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون [آل عمران : 169] فقيل : وجه الدلالة منها من ثلاثة أوجه :
الأول : أن
الحياة في البرزخ حاصلة لآحاد الأمة من الشهداء ، وللشهداء بذلك مزية على غيرهم ممن ليس بشهيد ، فما لهم أفضل ممن لم يكن له هذه المرتبة ، ولا يكون رتبة أحد من الأمة أعلى درجة من رتبة النبي- صلى الله عليه وسلم- ولا ثوابه أكمل ولا حاله أحسن .
الثاني : أن الذين قتلوا في سبيل الله إنما استحقوا هذه الرتبة بالشهادة ، والشهادة حاصلة له- صلى الله عليه وسلم- على أتم الوجود وأكملها؛ لأن الشهيد سمي شهيدا؛ إذ الشهادة الموت أو الشهادة لله أو الشهادة على الناس يوم القيامة ، أو لمشاهدة ثواب الله- عز وجل- ، أو لمشاهدة ملائكته ، وهذه الرتبة للنبي- صلى الله عليه وسلم- أكمل من الأمة وأعلاها الشهادة لله تعالى والشهادة على الناس وشهادة النبي- صلى الله عليه وسلم- أسمى وأعظم؛ فإنه- صلى الله عليه وسلم- شهد على الشهداء؛ قال الله تعالى :
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [البقرة : 143] فإن توهم متوهم أن هذا من خصائص القتلى ، فالنبي- صلى الله عليه وسلم- قد حصل له ذلك كما بيناه في باب أن الله تعالى اختار له مع النبوة الشهادة في أبواب الوفاة فراجعه .
وقال
الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي : صاحب «العمدة» المشهورة في جواب سؤال ما نصه : سألت : - أحسن الله لنا ولك التوفيق لم يحب ويرضى عن صلاة نبينا وسيدنا المصطفى المرتضى سيد الخلق في الآخرة ، والأولى بإخوانه النبيين والمرسلين ، هل صلى بأجسادهم أم بأرواحهم ، فاعلم- رحمك الله- أن مذهب أهل الحق القائلين بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[إن الإسراء كان برسول الله- صلى الله عليه وسلم-] بجسده وروح يقظة لا مناما ، فقد ورد به القرآن العزيز وورد به الخبر الصحيح ، قال الله سبحانه وتعالى :
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام [الإسراء : 1] الآية ، وتواترت الأخبار الصحيحة بذلك .
قال : فإن ثبت هذا ، فاعلم أن
الأنبياء أحياء في قبورهم . [ ص: 361 ]
روي حديث
أوس بن أوس قال : وهو حديث حسن صحيح ، أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي وجماعة ، وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=73785«مررت ليلة أسري بي على موسى ، وهو قائم يصلي في قبره» .
وهذا من صفة الأجساد لا من صفة الأرواح .
قال : وفي حديث حسن في الإسراء أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال : فدخلت المسجد ، فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد ، وقد صح في أحاديث كثيرة أن
آدم وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم- قالا له : مرحبا بالأخ الصالح ، وصح أنه لما لقي
موسى وجاوزه بكى
موسى وقد وصف- صلى الله عليه وسلم- الأنبياء ، فقال : رأيت
موسى قائما يصلي ، كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت
عيسى قائما يصلي كأنه
عروة بن مسعود الثقفي ، وأما
إبراهيم فأشبه الناس بصاحبكم- يعني نفسه- صلى الله عليه وسلم- وهذه صفة الأجساد لا صفة الأرواح ، وقد أخبر- صلى الله عليه وسلم- أنه لما لقي
موسى بعد أن فرض الله عليه خمسين صلاة ، فقال له : إني جربت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، ففعل ذلك مرارا إلى أن أمره الله بخمس صلوات .
ومحال أن يكون هذا الخطاب من روح
موسى دون جسده ، والقائل بذلك مخالف للنقل والعقل ، ونمنع أن يراهم في أجسادهم ويصفها ، ويخاطبهم ويخاطبونه ، ثم يصلي بالأرواح دون الأجساد ،
والصلاة في اللغة : الدعاء .
وفي الشريعة : عبارة عن القراءة مع القيام والركوع والسجود .
وقيام الأرواح وقعودها وقراءتها غير مدرك ولا معقول ولا منقول ، فتبارك الذي خص
محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه . فإن قال قائل : كيف صلى بهم في
بيت المقدس ثم رآهم في السماء ؟
فنقول ، وبالله التوفيق : إن الذي أسرى به من
المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى إلى السماء إلى سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى ، ثم رجع إلى
مكة قبل الصبح؛ هو الذي أراه إياهم كيف يشاء وجمعهم له أين يشاء ، فسبحان الذي لا يحاط بقدرته ، ولا تنتهي عظمته ، ولا تدرك حقيقته وهو على كل شيء قدير ،
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، انتهى كلام
الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله .
وفي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=885769إن إبراهيم ابني مات ، وإنه مات في الثدي وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة .
ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة ، وأن تكملة الرضاع إنما هو في الدنيا ، وإذا كان هذا في حق ولده- صلى الله عليه وسلم- كرامة له؛ فلأن يثبت في حقه الحياة- صلى الله عليه وسلم- بطريق أولى .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14724أبو داود الطيالسي بسند صحيح أن
nindex.php?page=hadith&LINKID=651293رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : لما مات إبراهيم : إن له مرضعا في الجنة .
[ ص: 362 ]
فقد تبين لك- رحمك الله من الأحاديث السابقة- حياة النبي وسائر الأنبياء- صلى الله عليه وسلم- وقد قال الله سبحانه وتعالى في الشهداء :
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون [آل عمران : 169] والأنبياء أولى بذلك؛ فهم أجل وأعظم ، وقل نبي إلا وقد جمع مع النبوة وصف الشهادة ، فيدخلون في عموم لفظ الآية ، فثبت كونه - صلى الله عليه وسلم- حيا في قبره بنص القرآن إما من عموم اللفظ وإما من مفهوم الموافقة .
الثاني : إن قيل : إن قوله- صلى الله عليه وسلم- : «إلا رد الله إلي روحي» ؛ يقتضي مفارقة الروح لبدنه الشريف في بعض الأوقات ، وذلك لا يلتئم مع كونه حيا على الدوام .
وقال الشيخ الإمام العلامة
علاء الدين القونوي الشافعي في «آداب البحث» له : ظاهرة رد روحه- صلى الله عليه وسلم- عند سلام أول من سلم عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته ، ثم إما أنه أن يقال : باستمرار حياته بعد ذلك ، وبقاء روحه المباركة في جسده الشريف ، كما كان قبل ، وهو المدعى ، ويحسن على هذا أن يقدر في حديث لفظة «قد» بعد أداة الاستثناء حتى يكون المعنى : ما من أحد يسلم علي إلا قد رد الله علي روحي . انتهى .
وهذا أحد الأجوبة . قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي .
وبهذا جزم الإمام العلامة
جمال الدين محمود بن جملة خطيب الجامع الأموي في كتاب الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- : وهو كتاب جليل ، ولم يطلع عليه شيخنا رحمه الله تعالى ، وقد أوضح الشيخ بلك في «فتاويه» قبل الوقوف على كلام
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي ، فقال في فتاويه : إن قوله : «رد الله تعالى» جملة حالية . وقاعدة العربية أن جملة الحال إذا وقعت فعلا ماضيا قدرت فيها «قد»؛ كقوله تعالى :
أو جاءوكم حصرت صدورهم [النساء : 90] أي قد حصرت ، وكذا هنا تقدر الجملة ماضية سابقة على السلام الواقع من كل أحد «وحتى» ليست للتعليل بل مجرد حرف عطف بمعنى «الواو» فصار تقدير الحديث : ما من أحد يسلم علي إلا قد رد الله علي روحي قبل ذلك وأرد عليه ، وإنما جاء الإشكال من ظن أن جملة «رد الله» بمعنى الحال أو الاستقبال ، وظن أن «حتى» تعليلية ، وليس كذلك . وبهذا الذي قررناه ارتفع الإشكال من أصله .
قال : ثم بعد ذلك رأيت الحديث مخرجا في كتاب «حياة الأنبياء» للبيهقي بلفظ : «إلا وقد رد الله علي روحي» فصرح فيه بلفظ «قد» ، ورواية إسقاطها محمولة على إضمارها ، وأن حذفها من تصرف الرواة ، ومراد الحديث الإخبار بأن الله تعالى يرد إليه روحه بعد الموت فيصير حيا على الدوام حتى لو سلم عليه أحد رد عليه سلامه لوجود الحياة فيه ، فصار الحديث موافقا للأحاديث الواردة في حياته في قبره ، ويؤيده من حيث المعنى أن الرد لو أخذ بمعنى الحال أو الاستقبال لزم تكراره عند تكرر المسلمين ، وتكرر الرد يستلزم تكرار المفارقة ، وتكرار المفارقة يلزم عليه محذوران .
[ ص: 363 ]
أحدهما : تألم الجسد الشريف بتكرر خروج الروح منه ، أو نوع ما من مخافة التكرار إن لم يكن تأليما .
والآخر : مخالفة سائر الناس الشهداء وغيرهم ، فإنه لم يثبت لأحد منهم أنه يتكرر له مفارقة الروح وعودها إلى البرزخ ، والنبي - صلى الله عليه وسلم- أولى بالاستمرار الذي هو أعلى مرتبة .
ومحذور ثالث : وهو مخالفة القرآن؛ فإنه دل على أنه ليس إلا موتة وحياتان ، وهذا التكرير يستلزم موتات كثيرة؛ وهو باطل . انتهى .
ثم قال
القونوي : وإما أن يقال : يردها عند سلام المسلم الأول ، ثم قبضها بعد ذلك ، ثم ردها عند مسلم آخر ، وهكذا كلما سلم عليه المسلمون ، وهذا لم يقل به أحد ، ولا يجوز اعتقاده أيضا ، فإنه يفضي إلى توالي موتات لا تحصى ورد الروح مرات لا تحصى ، فإن كل مصل يسلم عليه في صلاته مرة أو مرتين وغير المصلي أيضا يسلم عليه ، ويختلف أوقات سلامهم فلا يخلو ساعة من الساعات من سلام عليه ، ولا يخفى ما في التزام تكرار الرد بتكرار ذلك المحذور ، فتعين القول بردها عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد موته مرة واحدة لرد السلام على المسلم الأول واستمرار الحياة بعد ذلك إلى يوم القيامة فيكون النبي- صلى الله عليه وسلم- حيا في قبره ، ثم أيد ذلك بما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس مرفوعا ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=667874رأيت موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر ، وهو قائم يصلي في قبره .
الجواب الثاني : قال
السبكي : يحتمل أن يكون ردا معنويا ، وأن تكون روحه الشريفة مستقلة بشهود الحضرة الإلهية والملأ الأعلى عن هذا العالم ، فإذا سلم عليه أقبلت روحه الشريفة على هذا العالم فيدرك سلام من سلم عليه ، أو يرد عليه .
الثالث : قال الشيخ : إن لفظ «الرد» قد لا يدل على انفكاك المفارقة : بل كنى به عن مطلق الصيرورة كما قيل في قوله تعالى حكاية عن شعيب- عليه الصلاة والسلام- :
قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم [الأعراف : 89] إن لفظ العود أريد به مطلق الصيرورة لا العود بعد الانتقال؛ لأن شعيبا- عليه الصلاة والسلام- لم يكن في ملتهم قط ، وحسن استعمال هذا اللفظ في هذا الحديث مراعاة للمناسبة اللفظية بينه وبين قوله : «حتى أرد عليه السلام» في لفظ الرد في صدر الحديث لمناسبة ذكره في آخر الحديث .
الرابع : قال الشيخ : ليس المراد برد الروح عودها بعد المفارقة للبدن ، وإنما النبي- صلى الله عليه وسلم- في البرزخ مشغول بأحوال الملكوت مستغرق في مشاهدة ربه كما كان في الدنيا في حاله بالوحي ، وفي أوقات أخر ، فعبر عن إفاقته من تلك المشاهدة ، وذلك الاستغراق برد الروح ، ونظير هذا قول العلماء في اللفظة التي وقعت في بعض أحاديث الإسراء لم يكن
[ ص: 364 ] مناما ، وإنما المراد الإفاقة مما خامر من عجائب الملكوت .
قلت : وفي حديث
أبي أسيد حين جاء بابنه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليحنكه ، فوضعه على فخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واشتغل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالحديث مع الناس ، فرفع أبو أسيد ابنه ، ثم استيقظ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم يجد الصبي ، فسأل عنه ، فقالوا : رفع؛ فسماه الراوي استيقاظا .
وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة في ذهاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى
الطائف؛ فكذبوه ، قال : فرجعت مهموما ، فلم أستفق إلا بـ
«قرن الثعالب»؛ أي : أفاق مما كان فيه ، والله تعالى أعلم .
الخامس : قال الشيخ : إن الرد للروح يستلزم الاستمرار؛ لأن الزمان لا يخلو ممن يصلي عليه في أقطار الأرض .
السادس : قد يقال : أوحى الله إليه بهذا الأمر أولا قبل أن يوحى إليه؛ فإنه لا يزال حيا في قبره ، فأخبره به ، أوحى إليه بعد ذلك فلا منافاة بتأخير الخبر الثاني عن الأول .
قلت : وهذا يحتاج إلى نقل ، والله تعالى أعلم .
السابع : قال الشيخ
تاج الدين الفاكهاني في كتابه «الفجر المنير [فيما فضل به البشير النذير» ] : المراد بالروح هنا النطق مجازا ، فكأنه- صلى الله عليه وسلم- قال : إلا رد الله إلي نطقي ، وهو حي على الدوام ، لكن لا يلزم من حياته نطقه ، فالله سبحانه وتعالى يرد عليه النطق عند سلام كل مسلم ، وعلاقة المجاز أن النطق من لازمه وجود الروح ، كما أن الروح من لازمه وجود النطق بالفعل والقوة ، فعبر- عليه الصلاة والسلام- بأحد المتلازمين عن الآخر ، وفي تحقيق ذلك أن عود الروح لا يكون إلا مرتين عملا بقوله تعالى :
قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين [غافر : 11] قال الشيخ رحمه الله تعالى : في كلامه أمران :
أحدهما : أنه عزى الحديث
للترمذي ، وإنما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود .
الثاني : ظاهر كلامه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- مع كونه حيا في البرزخ يمنع عنه النطق في بعض الأوقات ، ويرد عليه عند سلام المسلم عليه ، وهذا بعيد جدا ، بل ممنوع؛ فإن العقل والنقل يشهدان بخلافه .
أما النقل؛ فإن الأخبار الواردة عن حاله وحال الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- في البرزخ مصرحة بأنهم ينطقون كيف يشاءون لا يمنعون من شيء ، بل وسائر المؤمنين كذلك ، والشهداء وغيرهم ينطقون في البرزخ بما شاءوا غيره من شيء ، ولم يرد أن أحدا يمنع من النطق في البرزخ إلا من مات عن غير وصية .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=11868أبو الشيخ nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان في كتاب «الوصايا» : عن
قيس بن قبيصة قال : قال
[ ص: 365 ] رسول الله- صلى الله عليه وسلم- :
من لم يوص لم يؤذن له في الكلام مع الموتى ، قيل : يا رسول الله ، وهل نكلم الموتى ؟ قال : «نعم» .
قال
السبكي :
حياة الأنبياء والشهداء في القبر كحياتهم في الدنيا ، ويشهد له صلاة
موسى في قبره ، فإن الصلاة تستدعي جسدا جيدا ، وكذلك الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء ، كلهم صفات الأجسام ، ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب ، وأما الحركات كالعلم والسماع فلا شك أن ذلك ثابت لهم ولسائر الموتى ، وأما العقل ، فلأن الحبس عن النطق في بعض الأوقات فيه نوع حصر وتعذيب ، ولهذا عذب به تارك الوصية ، والنبي - صلى الله عليه وسلم- منزه عن ذلك ، ولا يلحقه بعد وفاته حصر أصلا بوجه من الوجوه كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=129لفاطمة- رضي الله تعالى عنها- : في مرض وفاته :
nindex.php?page=hadith&LINKID=678131«لا كرب على أبيك بعد اليوم» .
وإذا كان الشهداء وسائر المؤمنين من أمته إلا من استثنى من المعذبين لا يحصرون بالمنع من النطق ، فكيف به- صلى الله عليه وسلم- ؟ !
فائدة :
لفظ الحديث الذي سقناه لفظ
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي .
ولفظ
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبي داود «إلا رد الله علي» .
قال الشيخ : ورواية
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي ألطف وأنسب ، فإن بين التعديتين فرقا لطيفا ، فإن رد يعدى ب «على» في الإهانة وب «إلى» في الإكرام .
قال في «الصحاح» : رد عليه الشيء إذا لم يقبله ، وكذا إذا خطأه ، وتقول : رده إلى منزله ورد إليه جوابا؛ أي رجع .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14343الراغب : من الأول قوله تعالى :
يردوكم على أعقابكم [آل عمران : 149]
ونرد على أعقابنا [الأنعام : 71] ومن الثاني :
فرددناه إلى أمه [القصص : 13]
ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [الكهف : 36] ،
ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة [التوبة : 94]
ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق [الأنعام : 62] .
وذكر الشيخ- رحمه الله تعالى- أجوبة كثيرا؛ فليراجعها من أرادها من فتاويه .
قلت : وأقوى الأجوبة الأول ، ونكتته الثالث والرابع .
الثالث : لا يقال : لو كان النبي- صلى الله عليه وسلم- حيا في قبره دائما لزم كونه محصورا في القبر أو مسجونا فيه؛ لأنا نقول : قد ورد أن المؤمن يفسح له في قبره كمد البصر ، فكيف بالنبي- صلى الله عليه وسلم- ؟ !
الرابع : إن قيل : فإذا كانوا أحياء قد أحياهم الله تعالى بعد موتهم؛ فيلزم من ذلك أنهم
[ ص: 366 ] يموتون موتة ثانية عند النفخ في الصور فيذوقون الموت أكثر من غيرهم . أجاب الإمام الحافظ
صلاح الدين العلائي في ترجمة موسى- صلى الله عليه وسلم- بأنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض ، فلا شك أن صعق غير الأنبياء بالموت ، وأما صعق الأنبياء فالظاهر أنه غشية وزوال استشعار لا موت كغيرهم؛ لئلا يلزم أنهم يموتون مرتين ، وهذا ما اختاره الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي nindex.php?page=showalam&ids=11963والقرطبي وغيرهما أن صعقهم يومئذ ليس موتا بل غشي أو نحوه .
ويدل لصحته
قوله- صلى الله عليه وسلم- : «
nindex.php?page=hadith&LINKID=653146أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ، فلم يكن حيا قبلي » .
فإن هذا يقتضي أنه إذا نفخ النفخة الثالثة ، وهي نفخة البعث يفيق من كان مغشيا عليه ، ويجيء من كان ميتا ، والنبي- صلى الله عليه وسلم- وكذلك غيره من الأنبياء لم يحصل لهم إلا الغشي .
والحاصل أن
نبينا- صلى الله عليه وسلم- تحقق أنه أول من يفيق وأول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم الأنبياء وغيرهم إلا
موسى - عليه الصلاة والسلام- فإنه يحصل له تردد ، هل بعث قبله أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق .
قال
العلائي : وهذا وجه أقوى ما يقرر عليه هذا الحديث وهو الذي لا يصح غيره .
[الحرة : الهمهمة : الصور : ]
[ ص: 367 ]