الباب الثاني في
تفسير أول سورة النجم
قال الله سبحانه وتعالى : بسم الله الرحمن الرحيم .
والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى [النجم : 1 : 18] .
الكلام على هذه الآيات من وجوه :
الأول : في
سبب نزولها .
النهر : «سببه قول المشركين إن
محمدا يختلق القرآن» .
الثاني : في مناسبة هذه السورة لما قبلها :
قال الإمام
الرازي والبرهان النسفي رحمهما الله ، قد قيل : إن السور التي تقدمت وهي التي أقسم الله تعالى فيها بالأسماء دون الحروف : الصافات والذاريات والطور وهذه السورة بعدها ، فالقسم في الأولى لإثبات الوحدانية ، كما قال :
إن إلهكم لواحد [الصافات : 4] .
وفي الثانية لوقوع الحشر والجزاء ، كما قال تعالى :
إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع [الذاريات : 5 ، 6] . وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى :
إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع [الطور : 7 ، 8] . وفي هذه السورة لبيان النبوة كما قال تعالى :
والنجم إذا هوى [النجم : 1] إلخ . لتكمل الأصول الثلاثة : الوحدانية والحشر والنبوة» .
والوجه الآخر في المناسبة لما قبلها هو أن الكفرة بالغوا في المكابرة والمعاندة في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، وطعنوا فيما نطق به من الكلام ، كما مر بيانه في تلك السورة ، فقال في هذه ما يدل على صدقه في دعواه ، وصدق ما نطق به وأجراه مؤكدا بالقسم .
وأما مناسبة أول هذه السورة إلى آخر ما قبلها فمن وجوه : أحدها : أن اختتام تلك السورة بالنجم وافتتاح هذه السورة بالنجم مع القسم . ثانيها : أنه تعالى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر في آخر تلك السورة ، كما قال تعالى :
واصبر لحكم ربك [الطور : 48] والصبر أمر صعب ، فذكر في أول هذه السورة ما يدل على علو منزلته وعظم شأنه ليسهل عليه ذلك الأمر .
ثالثها : لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم :
ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم
[الطور : 49] بين له أنه جزاه بخير ، فقال :
ما ضل صاحبكم وما غوى [النجم : 2] وزاد
الشيخ رحمه الله .
[ ص: 23 ]
تعالى ، في مناسبته وجها آخر ، وهو أن [سورة] الطور فيها ذكر ذرية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم ، وهذه فيها ذكر ذرية اليهود في قوله تعالى :
هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم [النجم : 32] .
فقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=12918ابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان عن
ثابت بن الحارث الأنصاري قال :
«كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير هو صديق ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «كذبت يهود ، ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد» .
فأنزل الله تعالى عند ذلك :
هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض الآية . ولما قال الله تعالى هناك في المؤمنين :
ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء [الطور : 21] أي ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين مع نفعهم بعمل آبائهم ، قال هناك في الكفار أو في الكبار :
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [النجم : 39] ، خلاف ما ذكر في المؤمنين الصغار» . انتهى .
أبو حيان رحمه الله : «هذه السورة مكية ، ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهر ، لأنه تعالى قال :
أم يقولون تقوله [الطور : 33] أي اختلق القرآن ، ونسبوه إلى الشعر ، وقالوا هو كاهن ، هو مجنون ، فأقسم تعالى أنه صلى الله عليه وسلم ما ضل ، وأن ما أتى به هو الوحي من الله . وهي أول سورة أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءتها في الحرم ، والمشركون يسمعون ، وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير
أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال يكفي هذا» . قلت : ذكر
أبي لهب هنا غريب .
روى الشيخان وغيرهما عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود قال :
أول سورة نزلت فيها سجدة النجم ، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه ، فرأيته قتل كافرا وهو
أمية بن خلف . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13508ابن مردويه وابن خلف عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في النجم وسجد من حضر من الجن والإنس والشجر ، زاد
nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة إلا رجلين من
قريش أرادا بذلك الشهرة ، وسمى أحد الرجلين المبهمين في الرواية السابقة ، والثاني
الوليد بن المغيرة كما عند
ابن سعد . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=909509سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس .
الثالث : في الكلام على القسم الواقع هنا .
الشيخ رحمه الله تعالى في الإتقان : [وقد قيل ما
معنى القسم منه تعالى؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن] فالمؤمن يصدق بمجرد الإخبار من غير قسم ، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده ، وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب ، ومن عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمرا .
وأجاب الأستاذ -بضم الهمزة وبالذال المعجمة-
أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى .
[ ص: 24 ]
بأن الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها وذلك أن الحكم يفصل باثنين إما بالشهادة وإما بالقسم ، فذكر تعالى في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجة فقال :
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم [آل عمران : 18] وقال :
قل إي وربي إنه لحق [يونس : 53] وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى :
وفي السماء رزقكم وما توعدون [الذاريات : 22]
فورب السماء والأرض إنه لحق [الذاريات : 23] ، صاح وقال : من ذا الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين؟ ولا يكون القسم إلا باسم معظم ، وقد أقسم الله تعالى بنفسه ، في القرآن في سبعة مواضع ، بقوله :
قل إي وربي [يونس : 53] ،
قل بلى وربي لتبعثن [التغابن : 7] ،
فوربك لنحشرنهم والشياطين [مريم 68] ،
فوربك لنسألنهم أجمعين [الحجر : 92] ،
فلا وربك لا يؤمنون [النساء : 65] ،
فلا أقسم برب المشارق والمغارب [المعارج : 40] ، والباقي كله قسم بمخلوقاته . فإن قيل : كيف أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله تعالى؟ قلنا أجيب عنه بأوجه : الأول أنه على حذف مضاف ، أي ورب النجم . وكذا الباقي . الثاني : أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفونه . الثالث : أن الإقسام إنما يكون بما يعظمه المقسم ويجله وهو فوقه . والله سبحانه وتعالى ليس فوقه شيء ، فأقسم تارة بنفسه وتارة بموضوعاته لأنها تدل على بادئ وصانع .
ابن أبي الإصبع رحمه الله تعالى في كتابه أسرار الفواتح : «القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل .
وروى
ابن حاتم عن
الحسن قال : «إن
الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلا بالله تعالى والقسم إما ظاهر وإما مضمر وهو قسمان : قسم دلت عليه اللام نحو
لتبلون في أموالكم [آل عمران : 186] وقسم دل عليه المعنى نحو :
وإن منكم إلا واردها [مريم : 71] تقديره : والله . . وأكثر الأقسام في القرآن المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو ، فإذا ذكرت الباء أتي بالفعل كقوله تعالى :
وأقسموا بالله [الأنعام : 109]
يحلفون بالله [النساء : 62] ولا تجد الباء مع حذف الفعل ، ومن ثم أخطأ من جعل قسما
[ ص: 25 ] بالله :
إن الشرك لظلم عظيم [لقمان : 13] ،
بما عهد عندك [الأعراف : 134] .
قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته [المائدة : 116] .
ابن القيم : «اعلم أن الله سبحانه وتعالى يقسم بأمور على أمور وإنما يقسم بنفسه الموصوفة بصفاته وآياته المستلزمة لذاته وصفاته . وأقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته ، فالقسم إما على جملة خبرية وهو الغالب كقوله تعالى
فورب السماء والأرض إنه لحق [الذاريات : 23] وإما على جملة طلبية كقوله تعالى :
فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [الحجر : 92 ، 93] ، مع أن هذا القسم قد يراد به تحقيق المقسم عليه ، فيكون من باب الخبر ، وقد يراد به تحقيق القسم فالمقسم عليه يراد بالقسم توكيده وتحقيقه ، فلا بد أن يكون مما يحسن فيه ذلك كالأمور الغائبة والخفية إذا أقسم على ثبوتها فأما الأمور المشهورة الظاهرة كالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض ، فهذه يقسم بها ولا يقسم عليها . وأما ما أقسم عليه الرب فهو من آياته ، فيجوز أن يكون مقسما به ولا ينعكس» .
الإمام
الرازي رحمه الله تعالى : «أقسم تعالى في بعض السور بمجموع كقوله تعالى :
والذاريات ، وفي بعضها بإفراد كقوله
والطور ، ولم يقل والأطوار والبحار ، والكلمة فيه أن أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحركات . والريح الواحدة ليست بثابتة مستمرة حيث يقع القسم عليها ، بل هي متبدلة بأفرادها ، مستمرة بأنواعها ، والمقصود منها لا يحصل إلا بالتبدل والتغير ، فقال :
والذاريات إشارة إلى النوع المستمر لا إلى الفرد غير المستقر . وأما الجبل فهو ثابت غير متغير عادة ، فالواحد من الجبال قائم زمانا ودهرا فأقسم في ذلك بالواحد .
وكذلك قوله :
والنجم » ، ولو قال : والريح ، لما علم المقسم به وفي الطور علم . والسور التي افتتاحها القسم بالأسماء دون الحروف ، كان القسم فيها لإثبات أحد الأصول الثلاثة وهي :
الوحدانية والرسالة والحشر وهي التي يتم بها الإيمان .
ثم إنه تعالى لم يقسم لإثبات الوحدانية إلا في سورة واحدة من تلك السور وهي :
الصافات ، حيث قال تعالى فيها :
إن إلهكم لواحد [الصافات : 4] ، وذلك لأنهم وإن كانوا يقولون :
أجعل الآلهة إلها واحدا ، على سبيل الإنكار فقد كانوا يبالغون في الشرك ، لكنهم في تضاعيف أقوالهم وتصاريف أحوالهم كانوا يصرحون بالتوحيد ، وكانوا يقولون :
إن إلهكم لواحد [الزمر : 3] وقال تعالى :
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله [العنكبوت : 61] .
فلم يبالغوا في الحقيقة والإنكار المطلوب الأول ، فاكتفى بالبرهان ولم يكثر من
[ ص: 26 ]
الأيمان في سورتين منها أقسم لإثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكونه رسولا في إحداهما بأمر ، وهو قوله تعالى :
والنجم إذا هوى ،
ما ضل صاحبكم وما غوى [النجم : 1 ، 2] . وفي الثانية بأمرين وهو قوله تبارك وتعالى :
والضحى والليل إذا سجى ،
ما ودعك ربك وما قلى [الضحى : 1 ، 2 ، 3] وذلك لأن القسم على إثبات رسالته قد كثر بالحروف والقرآن العظيم ، كما في قوله تعالى :
يس والقرآن الحكيم ،
إنك لمن المرسلين [يس : 1 ، 2 ، 3] . وقد ذكرنا الحكم فيه أن من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، فأقسم به ليكون في القسم إشارة واقعة إلى البرهان . وفي باقي السور كان المقسم عليه الحشر والجزاء ، وما يتعلق به يكون إنكارهم في ذلك خارجا عن الحد ، وعدم استيفاء ذلك في سور القسم بالحروف .
وأقسم تعالى بمجموع السلامة المؤنثة في خمس سور ، ولم يقسم بمجموع السلامة المذكرة في سورة أصلا . فقال
والصافات [الصافات : 1] ،
والذاريات [الذاريات : 1] ، ولم يقل «والصالحين من عبادي» ، ولا المقربين ، إلى غير ذلك ، مع أن الذكور أشرف وذلك لأن المجموع بالواو والنون في الأمر الغالب لمن يعقل .
وقد ذكرنا أن القسم بهذه الأشياء ليس لبيان التوحيد إلا في صورة ظهر الأمر فيه ، وحصل الاعتراف منهم ، ولا للرسالة لحصول ذلك في سورة القسم بالحروف والقرآن ، بقي أن يكون المقصود إثبات الحشر والجزاء ، لكن إثبات الحشر لثواب الصالح وعقاب الطالح ، ففائدة ذلك راجعة إلى من يعقل فيلزم أن يكون القسم بغيرهم . والسور التي أقسم فيها لإثبات الوحدانية أقسم في أول الأمر بالساكنات حيث قال :
والصافات وفي السور الأربع الباقية أقسم بالمتحركات فقال :
والذاريات ،
والمرسلات [المرسلات : 1] ،
والنازعات [النازعات : 1]
والعاديات ، وذلك لأن الحشر فيه جمع وتفريق ، وذلك بالحركة أليق . وفي السور الأربع أقسم بالرياح على ما بين ، وهي التي تجمع وتفرق ، فالقادر على تأليف السحاب المتفرق بالرياح الذارية والمرسلة قادر على تأليف الأجزاء المتفرقة بطريق من الطرق التي يختارها بمشيئته تبارك وتعالى» .
وقال
الإمام أيضا في موضع آخر : «اعلم أنه تعالى لم يقسم على الوحدانية ولا على النبوة كثيرا ، لأنه أقسم على الوحدانية في سورة الصافات ، وأما النبوة فأقسم عليها بأمر واحد في هذه السورة ، وبأمرين في سورة «والضحى» ، وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به .
فإن قوله تعالى :
والليل إذا يغشى [الليل : 1] وقوله :
والشمس وضحاها [الشمس : 1] وقوله تعالى :
والسماء ذات البروج [البروج : 1] ، إلى غير ذلك ، كلها في الحشر وما يتعلق به ، وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة ، كلها عقلية كما قيل .
[ ص: 27 ] وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد