سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الحادي والعشرون : في الكلام على قوله تعالى : ما زاغ البصر :

الصحاح : «الزيغ الميل ، وقد زاغ يزيغ وزاغ البصر أي مال» .

ابن القيم : «قال ابن عباس : «ما زاغ البصر يمينا ولا شمالا ، ولا جاوز ما أمر به» . وعلى هذا المفسرون ، فنفى تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم ما يعرض للرائي الذي لا أدب له بين أيدي الملوك والعظماء من التفاته يمينا وشمالا لما بين يديه ، وأخبر عنه بكمال الأدب في ذلك المقام ، وفي تلك الحضرة ، إذ لم يلتفت جانبا ، ولم يمد بصره إلى غير ما أري من الآيات وما هناك من العجائب ، بل قام مقام العبد الذي أوجب أدبه إطراقه وإقباله على ما أريد له دون التفاته إلى غيره ، ودون تطلعه إلى ما لم يره ، مع ما في ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته .

وهذا غاية الكمال . فزيغ البصر التفاته جانبا ، وطغيانه مده أمامه إلى حيث ينتهي . فنزه في هذه السورة عمله عن الضلال وقصده عن الغي ونطقه عن الهوى وفؤاده عن تكذيب بصره ، وبصره عن الزيغ والطغيان . وهكذا يكون المدح :


تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

اللباب تبعا للإمام الرازي : «اللام في البصر تحتمل وجهين : أحدهما : المعروف وهو بصر محمد صلى الله عليه وسلم ، أي ما زاغ بصر محمد ، وعلى هذا فعدم الزيغ لوجوه : إن قلنا الغاشي للسدرة هو الجراد أو الفراش ، فمعناه لم يلتفت محمد إليه ولم يشتغل به ، ولم يقطع نظره عن مقصوده .

وعلى هذا فغشيان الجراد والفراش يكون ابتلاء وامتحانا للنبي صلى الله عليه وسلم . وإن قلنا أنوار الله تعالى ففيه وجهان : أحدهما : لم يلتفت يمنة ويسرة ، بل اشتغل بمطالعتها ، وثانيهما : ما زاغ البصر بضعفه ، ففي الأول بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي الثاني بيان قوته . الوجه الثاني في اللام : أنها لتعريف الجنس ، أي ما زاغ بصره أصلا في ذلك الموضع لعظم الهيبة . فإن قيل : لو كان كذلك لقال : ما زاغ بصر ، فإنه أدل على العموم لأن النكرة في معرض النفي تعم . فالجواب هو كقوله تعالى : لا تدركه الأبصار [الأنعام : 103] ولم يقل لم يدركه بصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية