التنبيه الحادي والمائة :
قال
أبو الخطاب وتبعه
ابن المنير : «جواز النسخ قبل التمكن من الفعل قبل دخول الوقت مذهب
أهل السنة خلافا
للمعتزلة ، وجرى كل فريق على قاعدته وعقيدته . فعند أهل السنة التكليف على خلاف الاستطاعة جائز ، بل واقع إذ
الأفعال كلها مخلوقة لله تعالى ، والعبد مطالب بما لا يقدر على إيجاده ولا يتمكن من التأثير في إحرازه ، عملا بقوله تعالى :
والله خلقكم وما تعملون [الصافات : 96] بتقدير أن «ما» هنا مصدرية ،
والمعتزلة تجعل «ما» هنا موصولة وجروا على عقيدتهم في اعتقادهم أن العبد يخلق فعل نفسه ويوجد طاعة ربه باستطاعته واختياره ، ولا يسقط التكليف عندهم على خلاف الاستطاعة فلا يتصور النسخ قبل التمكن من الفعل كما تتصور قاعدته . واستدل أهل السنة على جواز النسخ قبل التمكن بأنه وقع . وأي دليل على الجواز أتم من الوقوع؟
ومثلوا ذلك بقصة الذبيح فإن الله تعالى أمر
إبراهيم بذبح ولده ، ثم خفف ذلك ونسخه إلى الفداء قبل أن يمضي زمن يسع الذبح ولا يمكن فيه الفعل . ومن هنا ضاقت على
المعتزلة المضايق حتى غالطوا في الحقائق ، واختلفوا في الأجوبة ، فمنهم من قال لم يأمره بالذبح لأن ذلك كان في المنام لا في اليقظة ، ولا عقل أضل من عقل من زعم أنه استظهر على نبي في واقعة هو صاحبها وقضى فيها ومنه ظهرت ، وعنه أثرت ، فإن الذبيح قال فيما حكاه الله تعالى وصوبه
يا أبت افعل ما تؤمر [الصافات : 102] ، ونحن نقول إن راوي الحديث أعرف بتأويله وتفسيره ، وأقعد بتبيينه وتنزيله .
وحتى لو تعارض تأويلان قدمنا تأويل صاحب الواقعة لأنه أفهم لها . فكيف لا يقدم تأويل الذبيح النبي الذكي المسدد المصوب من رب العالمين على تأويل المبتدع الضال الحائر المسكين؟ ومنهم من قال : أمر ولكن بالمقدمات : الشد والتل والصرع وتناول «المدية» .
وهذا من الطراز الأول لتهافت القول ، فإن إبراهيم قال :
أني أذبحك [الصافات : 102] ولم يقل أصرعك ، وأيضا ليست المقدمات «بلا» ، ولا سيما في حق
إبراهيم عليه السلام الذي علم أن الحال لا ينتهي بغير الاضطجاع خاصة بما لا يتعنى حينئذ للفداء ، فهذا أحيد عن السنن وجنوح إلى العناد والغبن .
ومنهم من قال : «أمر بالذبح وفعل ، ولكن انقلبت السكين أو لم تقطع ، أو انقلبت العنق حديدا ، وهذا من النمط المردود ، وحاصله النقل بالتقدير وهو الكذب بعينه ، ومنهم من قال :
«ذبح والتحم» ، وهذه معايرة النقول ومكابرة العقول . وذلك أن الأمر لو كان على هذه المثاب .
[ ص: 151 ]
لم يقع الاقتصار في الآية على حكاية
وتله للجبين [الصافات : 103] ولكان ذكر الذبح أوقع في الابتلاء ولسقطت فائدة الفداء . فبطل ما قالوه ، وتعين القول بجواز النسخ قبل التمكن بدليل وقوعه في قصة الذبيح ، فلا يمكنهم ترديد مثلها في قصة الإسراء إذ لا خفاء بأنه صلى الله عليه وسلم أمر في حق الأمة بخمسين صلاة ثم نسخ ما نسخ قبل أن يدخل وقت الصلاة فضلا عن أن يمضي زمان يسعها .
قال شيخنا
السهيلي : وأما
فرض الصلوات خمسين ثم حط منها عشرا بعد عشر إلى خمس صلوات وقد روي أيضا أنها حطت خمسا بعد خمس . وقد يمكن الجمع بين الروايتين لدخول الخمس في العشر ، فقد تكلم في هذا النقص من الفريضة أهو نسخ أم لا؟ على قولين .
فقال قوم : هو من باب نسخ العبادة قبل العمل بها ، وأنكر
أبو جعفر النحاس هذا القول من وجهين :
أحدهما : البناء على أصله ومذهبه في أن العبادة لا يجوز نسخها قبل العمل لها لأن ذلك عنده من البداء ، والبداء محال على الله سبحانه .
الثاني : أن العبادة إن جاز نسخها قبل العمل بها عند من يرى ذلك فليس يجوز عند أحد نسخها قبل هبوطها إلى الأرض وهبوطها إلى المخاطبين إنما هي شفاعة شفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ومراجعة راجعها ربه ليخفف عن أمته ولا يسمى مثل هذا نسخا» . أما مذهب
أبي جعفر النحاس في أن العبادة لا تنسخ قبل العمل بها وأن ذلك بداء فليس بصحيح لأن حقيقة البداء أن يبدو للآمر رأي يتبين له الصواب فيه بعد أن لم يكن تبينه ، وهذا محال في حق من يعلم الأشياء بعلم قديم . وليس النسخ من هذا في شيء ، إنما النسخ تبديل حكم بحكم ، والكل سابق في علمه ومقتضى حكمته ، كنسخه المرض بالصحة والصحة بالمرض ونحو ذلك ، وأيضا بأن العبد المأمور يجب عليه عند توجه الأمر إليه ثلاث عبادات :
الفعل الذي أمر به ، والعزم على الامتثال عند سماع الأمر ، واعتقاد الوجوب إن كان واجبا ، فإن نسخ الحكم قبل الفعل فقد حصلت فائدتان : العزم ، واعتقاد الوجوب ، وعلم الله تعالى ذلك منه علم مشاهدة . فصح امتحانه له واختباره إياه ، وأوقع الجزاء على حسب ما علم من نيته والذي لا يجوز إنما هو نسخ الأمر قبل نزوله وقبل علم المخاطب به . والذي ذكر
النحاس من نسخ العبادة بعد العمل بها ليس هو حقيقة النسخ لأن العبادة المأمور بها قد مضت وإنما جاء الخطاب بالنهي عن مثلها لا عنها . وقولنا في الخمس والأربعين صلاة الموضوعة عن
محمد صلى الله عليه وسلم وأمته . أحد وجهين إما أن يكون نسخ ما وجب على النبي صلى الله عليه وسلم من أدائها ، ورفع عنه استمرار العزم واعتقاد الوجوب . وهذا قد قدمنا أنه نسخ على الحقيقة ، ونسخ عنه ما وجد
[ ص: 152 ]
عليه من التبليغ ، فقد كان في كل مرة عازما على تبليغ ما أمر به [وقول
أبي جعفر إنما كان شافعا ومراجعا ينفي النسخ فإن النسخ قد يكون عن سبب معلوم فشفاعته عليه السلام لأمته كانت سببا للنسخ لا مبطلة لحقيقته ، ولكن المنسوخ ما ذكرنا من حكم التبليغ الواجب عليه قبل النسخ وحكم الصلوات الخمس في خاصته وأما أمته فلم ينسخ عنهم حكم [إذ] لا يتصور نسخ الحكم قبل وصوله إلى المأمور به . وهذا كله أحد الوجهين في الحديث .
والوجه الثاني : أن يكون هذا خبرا لا تعبدا وإذا كان خبرا لم يدخله النسخ ، ومعنى الخبر أنه عليه السلام ، أخبره ربه أن على أمته خمسين صلاة ومعناه : أنها خمسون في اللوح المحفوظ ، وكذلك قال في آخر الحديث : هي خمس ، وهي خمسون والحسنة بعشر أمثالها ، فتأوله رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنها خمسون بالفضل ، فلم يزل يراجع ربه حتى بين له أنها خمسون في الثواب لا بالعمل .