وفي هذه السنة:
قتل أبو مسلم .
وكان سبب ذلك أن
أبا مسلم كان قد كتب إلى
أبي العباس يستأذنه في الحج في سنة ست وثلاثين ، وإنما أراد أن يصلي بالناس فأذن له ، وكتب
أبو العباس إلى
أبي جعفر وهو على
الجزيرة: أن
أبا مسلم سألني الحج فاكتب إلي تستأذنني في ذلك ، فإنك إذا كنت
بمكة لم يطمع أن يتقدمك ، فكتب إليه ، فأذن له . فقال
أبو مسلم: أما وجد
أبو جعفر عاما يحج فيه غير هذا!! واضطغنها عليه ، فخرجا فكان
أبو مسلم يصلح العقاب ، ويكسو الأعراب في كل منزل ، ويصل كل من سأله ، وحفر الآبار ، وسهل الطريق ، وكان الصيت له .
[ ص: 5 ]
فلما صدر الناس عن الموسم نفر
أبو مسلم قبل
أبي جعفر فتقدمه ، فأتاه كتاب بوفاة
أبي العباس واستخلاف
أبي جعفر ، فكتب إلى
أبي جعفر يعزيه ولم يهنئه بالخلافة ، ولم يقم له حتى يلحقه ، فغضب
أبو جعفر فقال
لأبي أيوب: اكتب إليه كتابا غليظا . فلما أتاه كتاب
أبي جعفر كتب إليه يهنئه بالخلافة . فقال
يزيد بن أبي أسيد السلمي لأبي جعفر: إني أكره أن تجامعه في الطريق والناس له أطوع ، وليس معك أحد فأخذ برأيه ، فكان يتأخر ويتقدم
أبو مسلم ، وما كان في عسكر
أبي جعفر غير ستة أدرع ، فمضى
أبو مسلم إلى
الأنبار ، ودعا
عيسى بن موسى أن يبايع له ، فأبى
عيسى ، فقدم
أبو جعفر فنزل
الكوفة ، فأتاه خروج
عبد الله بن علي إلى
الأنبار ، وعقده
لأبي مسلم وقال: سر إليه . فقال
أبو مسلم: إن
عبد الجبار بن عبد الرحمن ، وصالح بن الهيثم يعيبانني فاحبسهما . فقال
أبو جعفر : إن
عبد الجبار على شرطي . وكان على شرط
أبي العباس وصالح بن الهيثم أخو أمير المؤمنين من الرضاعة ، فلم أكن لأحبسهما لظنك بهما . فقال: أراهما آثر عندك مني . فغضب
أبو جعفر . فقال
أبو مسلم: لم أرد كل هذا .
وقال رجل
لأبي أيوب: إني قد ارتبت
بأبي مسلم ، يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرأه ، ثم يلوي شدقه ، ويرمي بالكتاب إلى
أبي نصر مالك بن الهيثم فيقرأه ويضحك استهزاء!؟ فقال
أبو أيوب: نحن
لأبي مسلم أشد تهمة منا
لعبد الله بن علي ، إلا أنا نعلم أن أهل
خراسان لا يحبون
عبد الله بن علي ، وقد قتل منهم من قتل .
وكان
أبو مسلم قد أصاب من عسكر
عبد الله بن علي متاعا كثيرا وجوهرا كثيرا ، فبعث
أبو جعفر مولاه
أبا الخصيب ليحصي ذلك ، فغضب وافترى عليه ، وهم بقتله ، فقيل له: إنما هو رسول . فلما قدم به
أبو الخصيب على
أبي جعفر أخبره .
وقيل: إنما بعث إليه
يقطين بن موسى بذلك ، فقال
أبو مسلم: يا
يقطين ، أمين على الدماء جائر في الأموال . وشتم
أبا جعفر ، فأبلغه
يقطين ، فكتب إلى
أبي مسلم مع
يقطين: إني قد وليتك
مصر والشام ، وهي خير من
خراسان ، فوجه إلى
مصر من أحببت ،
[ ص: 6 ] وأقم
بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين ، فإن أحب لقاءك أتيته من قرب . فلما أتاه الكتاب غضب وقال: هو يوليني
الشام ومصر ، وخراسان لي! وعزم على المضي إلى
خراسان مجمعا على ذلك ، فكتب بذلك
يقطين إلى
أبي جعفر .
وخرج
أبو جعفر من
الأنبار إلى
المدائن ، وكتب إلى
أبي مسلم في المصير إليه ، فكتب
أبو مسلم ، وقد نزل
الزاب وهو على الرواح إلى طريق
حلوان: قد كنا نروي عن ملك
آل ساسان أن أخوف ما يكون من الوزراء إذا سكنت الدهماء ، فنحن نافرون من قربك ، حريصون على الوفاء بعهدك ، حريون بالسمع والطاعة ، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة ، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبد لك ، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك ، ضنا بنفسي .
فلما وصل الكتاب إلى
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور كتب [إلى
أبي مسلم: قد فهمت كتابك وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم] الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم ، وإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة ، فلم سويت نفسك بهم ، وأنت [في] طاعتك ومنا صحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به! وقد حمل إليك أمير المؤمنين
عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت إليها ، وأسأل الله أن يحول بين السلطان ونزغاته وبينك ، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك .
ثم إن
أبا جعفر وجه إلى
أبي مسلم جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي ، وكان واحد أهل زمانه ، فخدعه ورده .
قال
جرير: نزلت معه
جسر النهروان فتغدينا ، فقال: أين أمير المؤمنين؟ قلت:
بالمدائن . قال: في أي المواضع؟ قلت: في صحراء . قال: فما اسم الموضع؟ قلت:
رومية . فأطرق طويلا ثم قال: سر ولا حول ولا قوة إلا بالله .
[ ص: 7 ]
قال
جرير: وقد كان قيل له إنك تقتل أو تموت
برومية . فظنها بلاد
الروم . ثم قال:
إنا لله وإنا إليه راجعون ذهبت والله نفسي بيدي . ثم جعل يخاطب نفسه ويقول: يا
أبا مسلم ، فتح لك من باب المكايد في عدوك وصديقك ما لم يفتح لأحد حتى إذا دان لك من بالمشرق والمغرب ، خدعك عن نفسك من كان يهاب بالأمس من ينظر إليك
إنا لله وإنا إليه راجعون .
ثم تمثل:
فهل من خالد إما هلكنا وهل بالموت عند الناس عار
فأقبل وتلقاه الناس وأنزله وأكرمه ، وكان فيمن بعث إليه
عيسى بن موسى ، فحلف له بعتق كل مملوك له ، وصدقة كل ما يملك ، وطلاق نسائه ، وقال: لو خير
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور بين موت أبيه وموتك لاختار موت أبيه ، فإنه لا يجد منك خلفا .
فأقبل معه ، فلما دخل
أبو مسلم المدائن قال
لعيسى بن موسى: تدري ما مثلي ومثلك ومثل عمك؟ مثل ثلاثة نفر كانوا في سفر فأتوا على عظام نخرة ، فقال أحدهم:
عندي طب إذا رأيت عظاما متفرقة ألفتها . فقال الثاني: وأنا إذا رأيت عظاما موصولة كسوتها لحما . فقال الثالث: وأنا إذا رأيت عظاما مكسوة لحما أجريت فيها الروح .
ففعلوا ذلك ، فإذا الذي أحيوه أسد ، فقال الأسد في نفسه: ما أحياني هؤلاء إلا وهم على أن يميتوني أقدر . فوثب عليهم فأكلهم ، والله ليقتلني وليقتلن عمك ، وليخلعنك أو ليقتلنك .
وفي رواية: أن
أبا مسلم كتب إلى
أبي جعفر: أما بعد ، فإني اتخذت رجلا إماما ، فحرف القرآن عن مواضعه طمعا في قليل قد بغاه الله عز وجل إلى خلقه ، فكان كالذي ولي بغرور ، فأمرني أن أجرد السيف ، وأن أرفع الرحمة ولا أقيل العثرة ، ففعلت توطئة لسلطانك حتى عرفكم من كان يجهلكم ، ثم استنقذني الله بالتوبة ، فإن يعف عني فقديما عرف به ونسب إليه ، وإن يعاقبني فبما قدمت يداي ، وما الله بظلام للعبيد .
[ ص: 8 ]
أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=14986أبو منصور القزاز قال: أخبرنا
أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=11872أبو الطيب الطبري قال: حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15263المعافى بن زكريا قال: حدثنا
محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا
المغيرة بن محمد قال: حدثنا
محمد بن عبد الوهاب قال: حدثنا
علي بن المعافى قال: كتب
أبو مسلم إلى
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور حين استوحش منه:
أما بعد ، فقد كنت اتخذت أخاك إماما وجعلته على الدين دليلا وللوصية التي زعم أنها صارت إليه ، فأوطأني عشوة الضلالة ، وأوثقني موثقة الفتنة ، وأمرني أن آخذ بالظنة ، وأقتل على التهمة ، ولا أقبل المعذرة ، فهتكت بأمره حرمات حتم الله صونها ، وسفكت دماء فرض الله حقنها ، وزويت الأمر عن أهله ، ووضعته منه في غير محله ، فإن يعف الله عني فبفضل منه ، وإن يعاقب فبما كسبت يداي ، وما الله بظلام للعبيد . ثم أنساه الله هذا - يعني
أبا مسلم - حتى جاءه فقتله .
وفي رواية: أن
أبا مسلم خرج يريد
خراسان ، مراغما مشاقا ، فلما دخل أرض
العراق وارتحل
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور من
الأنبار ، فأقبل حتى نزل
المدائن ، وأخذ
أبو مسلم طريق
حلوان ، فقيل
لأبي جعفر أخذ طريق
حلوان ، فقال: رب أمر لله دون
حلوان .
وقال
أبو جعفر لعيسى بن علي وعيسى بن موسى ومن حضره من
بني هاشم :
اكتبوا إلى
أبي مسلم . فكتبوا إليه يعظمون أمره ويشكرونه على ما كان منه من الطاعة ، ويحذرونه عاقبة الأمر ، ويأمرونه بالرجوع إلى أمير المؤمنين ، وأن يلتمس رضاه ، وبعث
أبو جعفر بذلك مع
أبي حميد المروزي وقال له: كلم
أبا مسلم بألين ما يكلم به أحد ، ومنه ، وأعلمه أني رافعه وصانع به ما لم يصنعه به أحد إن هو صلح وراجع ما
[ ص: 9 ] أحب ، فإن أبى أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين لست
nindex.php?page=showalam&ids=18للعباس ، وأنا بريء من
محمد ، إن مضيت مشاقا ولم تأتني ، إن وكلت أمرك إلى أحد سواي ، وإن لم أل طلبك وقتالك بنفسي ، ولو خضت البحر لخضته ، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك ، ولا تقولن له هذا الكلام حتى تيأس من رجوعه ، ولا تطمع منه في خير .
فسار
أبو حميد في مأمن من أصحابه ممن يثق بهم ، حتى قدموا على
أبي مسلم بحلوان ، فدخل عليه
أبو حميد ، فدفع إليه الكتاب وقال له: إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله ، وخلاف ما عليه رأيه فيك ، حسدا وبغيا ، يريدون إزالة هذه النعمة وتغييرها ، فلا تفسد ما كان منك ، وإنك لم تزل أمين
آل محمد ، يعرفك بذلك الناس ، وما ذخر الله لك من الأجر عنده أعظم مما أنت فيه من دنياك ، فلا تحبط أجرك ، ولا يستهوينك الشيطان .
فقال له
أبو مسلم: متى كنت تكلمني بهذا؟ فقال: لأنك دعوتنا إلى هذا وإلى طاعة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمرتنا بقتال من خالف ذلك ، وقلت: إن خالفتكم فاقتلوني .
فعند ذلك أقبل
أبو مسلم على
أبي نصر فقال: يا
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ، أما تسمع ما يقول لي هذا ، ما هذا بكلامه . فقال: لا تسمع قوله ، فما هذا بكلامه ، وما بعد هذا أشد منه ، فامض لأمرك ولا ترجع ، فوالله لئن أتيته ليقتلنك ، ولقد وقع في نفسه منك شيء لا يأمنك أبدا . فقال
أبو مسلم: قوموا . وأرسل إلى نيزك فقال: ما ترى؟ فقال: ما أرى أن تأتيه ، وأرى أن تأتي
الري ، فتقيم بها ، فيصير ما بين
خراسان والري لك ، وهم جندك لا يخالفك أحد ، فإن استقام لك استقمت له ، وإن أبى كنت في جندك ، وكانت
خراسان من ورائك ، فرأيت رأيك .
فدعا
أبا حميد فقال: ارجع إلى صاحبك ، فليس من رأيي أن آتيه . فقال: قد اعتزمت على خلافه . قال: لا تفعل . قال: ما أريد أن ألقاه . فلما آيسه من الرجوع قال له: ما أمره
أبو جعفر أن يقوله . فوجم طويلا ثم قال: قم . فكسره ذلك القول وأرعبه .
وكان
أبو جعفر قد كتب إلى
أبي داود وهو خليفة
أبي مسلم بخراسان حين اتهم
أبا مسلم: إن لك إمرة
خراسان ما بقيت . فكتب
أبو داود إلى
أبي مسلم: إنا لم نخرج
[ ص: 10 ] بمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم ، فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه . فوافاه كتابه على تلك الحال فزاده رعبا وهما ، فأرسل إلى
أبي حميد وإلى
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك فقال لهما: إني قد كنت عازما على المضي إلى
خراسان ، ثم رأيت أن أوجه
أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين ، فيأتيني برأيه ، فإنه ممن أثق به ، وكان صاحب حرس
أبي مسلم ، فوجهه ، فلما قدم تلقاه
بنو هاشم بكل ما يحب ، وقال له
أبو جعفر : اصرفه عن وجهه ، ولك ولاية
خراسان ، وأجازه .
فرجع
أبو إسحاق إلى
أبي مسلم فقال له: ما أنكرت شيئا ، رأيتهم معظمين لحقك ، يرون لك ما يرون لأنفسهم ، وأشار عليه أن يرجع إلى أمير المؤمنين فيعتذر إليه مما كان منه ، فاجمع على ذلك ، فقال له
نيزك: قد أجمعت على الرجوع؟ قال: نعم .
وتمثل:
ما للرجال مع القضاء محالة ذهب القضاء بحيلة الأقوام
فقال: أما إذا اعتزمت على هذا فخار الله لك ، احفظ عني واحدة: إذا دخلت عليه فأقتله ثم بايع لمن شئت ، فإن الناس لا يخالفونك .
فكتب
أبو مسلم إلى
أبي جعفر يخبره أنه منصرف إليه ، فبينا كتاب
أبي مسلم بين يدي
أبي جعفر إذ دخل عليه
أبو أيوب ، فرمى
أبو جعفر إليه بالكتاب ، فقرأه فقال والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه . فاغتم
أبو أيوب وقال في نفسه: لئن قتله لا يترك أصحابه أحدا ممن يتعلق
بأبي جعفر حيا .
وقال
إسحاق الموصلي: لما عزم
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور على الفتك
بأبي مسلم هاب ذلك عمه
عيسى بن علي ، فكتب إليه يقول:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبر فإن فساد الرأي أن تتعجلا
فوقع
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور في كتابه:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
ولا تهمل الأعداء يوما بقدرة وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
قال
أبو إسحاق : والشعر
nindex.php?page=showalam&ids=15337للمنصور .
ثم سار
أبو مسلم ، فلما دنا من
المدائن أمر أمير المؤمنين الناس فتلقوه ، فدخل
أبو [ ص: 11 ] أيوب على
أبي جعفر فقال: هذا الرجل يدخل العشية ، فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أقتله حين أنظر إليه . فقال: إن دخل عليك ولم تخرج لم آمن البلاء ، ولكن إذا دخل عليك فأذن له أن ينصرف ، فإذا غدا عليك رأيت رأيك .
فلما دخل عليه سلم وقام قائما على قدميه بين يديه . فقال: انصرف يا
عبد الرحمن فأرح نفسك ، وادخل الحمام ، فإن للسفر قشفا ، ثم اغد علي . فانصرف ، ثم ندم
أبو جعفر ، وافترى على
أبي أيوب وقال: متى أقدر على هذه الحال ولا أدري ما يحدث في ليلتي! .
فلما أصبحوا جاء
أبو أيوب فقال له
أبو جعفر : يا ابن اللخناء ، لا مرحبا بك ، أنت منعتني منه أمس ، والله ما غمضت عيني الليلة . ثم شتمه حتى خاف أن يأمر بقتله . ثم قال: ادع لي
عثمان بن نهيك . فدعاه فقال: يا
عثمان ، كيف بلاء أمير المؤمنين عندك؟
فقال: يا أمير المؤمنين ، إنما أنا عبدك ، والله لو أمرتني أن أتكئ على سيفي حتى يخرج من ظهري لفعلت . قال: كيف أنت إن أمرتك بقتل
أبي مسلم - فوجم ساعة لا يتكلم . فقال له
أبو أيوب: ما لك لا تتكلم؟ فقال بصوت ضعيف: أقتله . قال: انطلق فجئ بأربعة من وجوه الحرس أقوياء ، فمضى ، فلما كان عند الرواق ناداه: يا
عثمان يا
عثمان ، ارجع واجلس وأرسل من تثق به من الحرس فليحضر منهم أربعة . فلما حضروا قال لهم
أبو جعفر نحوا مما قال
nindex.php?page=showalam&ids=7لعثمان ، فقالوا: نقتله . قال: كونوا خلف الرواق . فإذا صفقت فاخرجوا فاقتلوه .
فأرسل إلى
أبي مسلم رسلا بعضهم على أثر بعض ، فقالوا: قد ركب إلى
عيسى بن موسى . فدعا له
عيسى بالغداء ، ثم خرج إلى
أبي جعفر وأبو نصر حاجبه بين يديه وحربته معه ، فلما قربا من الباب خرج
سلام الحاجب فقال: انزل . فنزل فدخل الدهليز وأغلق الباب دونه ، فقال
أبو مسلم: يدخل خاصة أصحابي ، فقال له
الربيع: لم نؤمر بذلك . فنزع سيفه من وسطه وقال: الآن عرف الرامي موضع سهمه - وهو مثل يضرب لمن أمكن عدوه من نفسه - فلما بصر
بالمنصور انحرف إلى القبلة ، فخر ساجدا ، ثم دنا ليقبل أطرافه ، فقال له: وراءك يا ابن اللخناء . فنصب له كرسي فقعد فقال له
أبو [ ص: 12 ] جعفر: أخبرني عن نصلين أصبتهما في متاع
عبد الله بن علي . فقال: هذا أحدهما الذي علي . قال: أرنيه . فانتضاه وناوله إياه ، فهزه
أبو جعفر ثم وضعه تحت فراشه وأقبل عليه يعاتبه . فقال له: اخترناك وأنت لا تدري أية بيضة انفقأت عن رأسك ، ولا من أي وكر نهضت ، خامل ابن خامل ، فل ابن فل ، ذل ابن ذل ، عشت أيام حداثتك ، وخير يوميك ، يوم تشتري فيه
لعاصم بن يونس إزار قدره . ومكشحة داره ، فرقأنا بك المنابر ، ووطئنا أعناق
العرب والعجم عقبيك ، أخبرني عن كتابك إلى
أبي العباس تنهاه عن الموات ، أردت أن تعلمنا الدين . قال: ظننت أخذه لا يحل ، فكتب إلي ، فلما أتاني كتابه علمت أن أمير المؤمنين وأهل بيته معدن العلم . قال: فأخبرني عن تقدمك إياي في الطريق؟ قال: كرهت اجتماعنا على الماء ، فيضر ذلك بالناس ، فتقدمت التماس الرفق . قال: فقولك حين أتاك الخبر بموت
أبي العباس لمن أشار عليك أن تنصرف إلي: نقدم فنرى رأينا ، ومضيت ، فلا أنت أقمت حتى ألحقك ولا أنت رجعت إلي؟
قال: منعني ما أخبرتك من طلب الرفق بالناس ، وقلت: نقدم
الكوفة . قال: فجارية
عبد الله بن علي ، أردت أن تتخذها؟ قال: لا ، ولكن خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها . قال: فمراغمتك وخروجك إلى
خراسان؟ قال: خفت أن يكون قد دخلك مني [شيء] ، فقلت: آتي
خراسان ، فأكتب إليك بعذري ، ولو رأينا ذهب ما في نفسك علي؟ قال: تالله ما رأيت كاليوم قط ، والله ما زدتني إلا غضبا . قال: ليس يقال لي هذا بعد بلائي ، وما كان مني؟ قال: يا ابن الخبيثة ، والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت ، إنما عملت ما عملت في دولتنا وبريحنا ، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا ، ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك!؟ ألست تخطب
أمينة بنت علي ، وتزعم أنك
ابن سليط بن عبد الله بن عباس ، لقد ارتقيت - لا أم لك - مرتقى صعبا .
وأخذ يعتذر
وأبو جعفر يعاتبه ، إلى أن قال
أبو مسلم: دع هذا ، فما أصبحت أخاف أحدا إلا الله . فغضب وشتمه وضربه بعمود ، وصفق بيديه ، فخرجوا عليه ، فضربه
عثمان فلم يصنع شيئا ، لم يزد على قطع حمائل سيفه ، وضربه آخر فقطع رجله ، فصاح
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور : اضربوا قطع الله أيديكم . فقال
أبو مسلم في أول ضربة: استبقني لعدوك .
فقال: وأي عدو أعدى إلي منك!؟ فصاح: العفو . فقال
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور : يا ابن اللخناء ،
[ ص: 13 ] العفو والسيوف قد اعتورتك؟ ! ثم قال: اذبحوه ، فذبحوه ، وجاء
عيسى بن موسى فقال: أين
أبو مسلم؟ فقال: مدرج في الكساء . فقال: إنا لله ، وجعل يلطم ويقول: أحنثتني في أيماني ، وأهلكتني . فقال له: علي لكل شيء تخرجه ضعفاه ، ويحك اسكت ، فما تم سلطانك ولا أمرك إلا اليوم . ثم رمى به في
دجلة . وذلك لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور :
زعمت أن الذي لا يقتضي فاستوف بالكيل أبا مجرم
سقيت كأسا كنت تسقي بها أمر في الحلق من العلقم
وكان أبو مسلم قد قتل في دولته ستمائة ألف صبرا .
أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=14986أبو منصور القزاز قال: أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=14231أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=11872أبو الطيب الطبري قال: حدثنا
المعافى قال: حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=14661الصولي قال: حدثنا
الغلابي قال: حدثنا
يعقوب ، عن أبيه قال: خطب
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور بالناس بعد قتل
أبي مسلم فقال: أيها الناس ، لا تنفروا أطراف النعم بقلة الشكر فتحل بكم النقم ، ولا تسروا غش الأئمة ، فإن أحدا لا يسر منكرا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه ، [وطوالع نظره] وإنا لن نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا ، ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا ، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه خبئ هذا الغمد ، وإن
أبا مسلم بايع لنا على أنه من نكث بيعتنا ، أو أضمر غشا لنا فقد أبحنا دمه ، ومكث وغدر وفجر ، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا .
قال علماء السير: ثم إن
أبا جعفر هم بقتل أبي إسحاق صاحب حرس أبي مسلم ، وبقتل
نصر بن مالك - وكان على شرط
أبي مسلم - فكلمه
أبو الجهم وقال: يا أمير
[ ص: 14 ]
المؤمنين ، جنده جندك ، أمرتهم بطاعته فأطاعوه . فدعا
أبا إسحاق وقال: أنت المبايع لعدو الله
أبي مسلم على ما كان يفعل . فجعل يلتفت يمينا وشمالا تخوفا من
أبي مسلم .
فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور : تكلم بما أردت ، فقد قتل الله الفاسق . وأمر بإخراجه إليه مقطعا ، فخر
أبو إسحاق ساجدا ، فأطال السجود وقال: الحمد لله ، والله ما أمنته يوما واحدا ، وما جئته يوما إلا وقد أوصيت وتكفنت وتحنطت . فقال: استقبل طاعة خليفتك ، وأحمد الله الذي أراحك من الفاسق ، ثم دعا
مالك بن الهيثم فكلمه بمثل ذلك ، فاعتذر إليه بأنه أمره بطاعته ، ثم أمرهم بتفريق جند
أبي مسلم .
وبعث إلى عدة من قواد
أبي مسلم بجوائز سنية ، وأعطى جميع جنوده حتى رضوا .
وكان
أبو مسلم قد خلف أصحابه
بحلوان وقدم
المدائن في ثلاثة آلاف ، وخلف
أبا نصر على ثقله وقال: أقم حتى يأتيك كتابي ، قال: فاجعل بيني وبينك آية أعرف بها كتابك . قال: إن أتاك كتابي مختوما بنصف خاتم فأنا كتبته ، وإن أتاك بخاتم كله فلم أكتبه .
فلما قتل
أبو مسلم كتب
أبو جعفر إلى
أبي نصر كتابا عن لسان
أبي مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلف عنده ، وأن يقدم . وختم الكتاب بخاتم
أبي مسلم ، فلما رأى
أبو نصر نقش الخاتم تاما علم أن
أبا مسلم لم يكتبه ، فقال: أفعلتموها ، وانحدر إلى
همدان وهو يريد
خراسان ، فكتب
أبو جعفر إلى
أبي نصر بعهده على
شهرزور ، فلما مضى العهد جاءه الخبر أنه قد توجه إلى
خراسان ، فكتب
أبو جعفر إلى عامله
بهمدان: إن مر بك
أبو نصر فاحبسه . فأخذه فحبسه ، فقدم صاحب [الكتاب] بالعهد
لأبي نصر فخلى سبيله ، ثم قدم كتاب آخر بعده بيومين يقول فيه: إن كنت أخذت
أبا نصر فاقتله .
فقال: جاءني كتاب عهده فخليت سبيله .
وقدم
أبو نصر على
أبي جعفر فقال له: أشرت على
أبي مسلم بالمضي إلى
[ ص: 15 ] خراسان فقال: نعم يا أمير المؤمنين ، كانت له عندي أياد وصنائع ، فاستشارني فنصحته ، وأنت يا أمير المؤمنين إن اصطنعتني نصحت لك وشكرت . فعفا عنه .
وفي رواية: أن
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور كتب إلى عامل
أصبهان: لله دمك إن فاتك - يعني
أبا نصر فأخذه وأوثقه وبعثه إليه فصفح عنه .
وقد كان
أبو الجهم بن عطية أحد النقباء ، وكان عينا
لأبي مسلم على
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور ، فلما اتهمه
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور طاوله يوما بالحديث حتى عطش ، فاستسقى ماء فدعي له بسويق لوز ممزوج بالسكر ، وفيه سم ، فشربه ، فلما استقر في جوفه أحس بالموت ، فوثب مسرعا فقال له: إلى أين؟ قال: إلى حيث أرسلتني . فرجع إلى رحله فمات . فقال الشاعر:
تجنب سويق اللوز لا تقربنه فشرب سويق اللوز أودى أبا الجهم
وذهبت "شربة
أبي الجهم" مثلا للشيء الطيب الطعم الخبيث العاقبة .
قال
أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الحافظ: إن
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور كان يقول: ثلاث كن في صدري شفى الله منها: كتاب
أبي مسلم إلي وأنا خليفة: عافانا الله وإياك من السوء ، ودخول رسوله علينا وقوله: أيكم ابن الحارثية؟ وضرب
سليمان بن حبيب ظهري بالسياط .
قال
أبو محمد: كان
سليمان قد استعمل
nindex.php?page=showalam&ids=15337المنصور على بعض
كور فارس قبل أن تصير الخلافة إلى
بني العباس ، فاحتجز المال لنفسه ، فضربه
سليمان بالسياط ضربا شديدا وأغرمه المال ، فلما ولي الخلافة ضرب عنقه .