[ ص: 287 ] ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين
فمن الحوادث فيها :
أنه في المحرم وافى أبو أحمد الموفق من الجبل إلى العراق ، فتلقاه الناس بالنهروان ، فركب في الماء وسار [ في
النهروان ، ثم ] في
نهر ديالى ، ثم في
دجلة ، وكان مريضا بالنقرس ، ودخل داره في أوائل صفر ، ثم توفي بعد أيام ، وطلع لليلتين بقيتا من المحرم كوكب ذو جمة ، ثم صارت الجمة ذؤابة ، وخلع على
عبد الله بن سليمان بن وهب وولي الوزارة .
وفي هذه السنة : غار ماء النيل ، وكان ذلك شيئا لم يعهد مثله ، ولا [ بلغ ] في الأخبار السالفة .
وحج بالناس في هذه السنة
هارون بن محمد الهاشمي .
وفيها : وردت الأخبار بحركة قوم يعرفون
بالقرامطة وهم الباطنية ، وهؤلاء قوم تبعوا طريق الملحدين ، وجحدوا الشرائع ، وأنا أشير إلى البدايات التي بنوا عليها ، ثم إلى الباعث لهم على ما فعلوا من نصب دعوتهم ، [ ثم إلى ألقابهم ، ثم ] إلى مذاهبهم وعلومهم .
فأما البدايات التي بنوا عليها :
فإنه لما كان مقصودهم الإلحاد تعلقوا بمذاهب الملحدين مثل :
زرادشت ،
[ ص: 288 ] ومزدك ، فإنهما كانا ينتحلان المحظورات ، وقد سبق في أوائل هذا الكتاب شرح حالهما ، وما زال أكثر الناس مع إعراضهم لا يدخلون في جحر يمنعهم إياها ، فلما جاء نبينا صلى الله عليه وسلم فقهر الملل وقمع الإلحاد ، أجمع جماعة من
الثنوية ، والمجوس ، والملحدين ، ومن دان بدين
الفلاسفة المتقدمين ، فأعملوا آراءهم وقالوا : قد ثبت عندنا أن جميع الأنبياء كذبوا وتخرقوا على أممهم ، وأعظم كل بلية علينا
محمد صلى الله عليه وسلم فإنه تبع من
العرب الطغام فخدعهم بناموسه ، فبذلوا أموالهم وأنفسهم ، ونصروه وأخذوا ممالكنا ، وقد طالت مدتهم ، والآن قد تشاغل أتباعه ، فمنهم مقبل على كسب الأموال ، ومنهم على تشييد البنيان ، ومنهم على الملاهي ، وعلماؤهم يتلاعبون ، ويكفر بعضهم بعضا ، وقد ضعفت بصائرهم ، فنحن نطمع في إبطال دينهم ، إلا أنا لا يمكننا محاربتهم لكثرتهم ، فليس الطريق إلا إنشاء دعوة في الدين والانتماء إلى فرقة منهم ، وليس فيهم فرقة أضعف عقولا من
الرافضة فندخل عليهم ، نذكر ظلم سلفهم الأشراف من آل نبيهم ، ودفعهم عن حقهم ، وقتلهم ، وما جرى عليهم من الذل لنستعين بها ، ولا على إبطال دينهم ، فتناصروا وتكاتفوا وتوافقوا وانتسبوا إلى
إسماعيل بن جعفر [ بن محمد ] الصادق ، وكان
لجعفر أولاد منهم :
إسماعيل هذا ، وكان يقال له :
إسماعيل الأعرج .
ثم سول لهم الشيطان آراء ومذاهب أخذوا بعضها من
المجوس ، و [ أخذوا ] بعضها من
الفلاسفة وتخرقوا على أتباعهم ، وإنما قصدهم الجحد المطلق ، لكنهم لما لم يمكنهم ، توسلوا إليه فقد بان لك بما ذكرت . [ ومن ] البدايات التي بنوا عليها ، والباعث لهم على ما فعلوا من نصب الدعوة .
[ ص: 289 ] وأما ألقابهم :
فإنهم يسمون
الإسماعيلية ، والباطنية ، والقرامطة ، والخرمية ، والبابكية ، والمحمرة ، والسبعية ، والتعليمية .
فأما تسميتهم
بالإسماعيلية : فانتسابهم إلى
إسماعيل بن جعفر على ما ذكرناه .
وأما تسميتهم
بالباطنية : فإنهم ادعوا أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن ، تجري مجرى اللب من القشر ، وأنها توهم الأغبياء صورا ، وتفهم الفطناء رموزا ، وإشارات إلى حقائق خفية ، وأن من تقاعد عن العرض على الخفايا والبواطن متعثر ، ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكلف ، واستراح من إعيائه ، واستشهدوا بقوله تعالى :
ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم قالوا : والجهال بذلك هم المرادون بقوله تعالى :
فضرب بينهم بسور له باب وغرضهم فيما وضعوا من ذلك : إبطال الشرائع ، لأنهم إذا صرفوا العقائد عن غير موجب الظاهر فحكموا بدعوى الباطن على ما يوجب الانسلاخ من الدين .