[ذكر دانيال عليه السلام]
لما تمت عمارة بيت المقدس سأل
أرميا ربه عز وجل أن يقبضه إليه ، فمات ، وأنقذ الله بني إسرائيل من
أرض بابل على يدي
دانيال .
وكان
دانيال ممن سباه
بخت نصر في تخريب بيت المقدس ، فرمى به في جب مغلولا في فلاة من الأرض ، وألقى معه سبعين ، وأطبق عليه الجب ، فبقي تسعة أيام .
فأوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: انطلق فاستخرج
دانيال من الجب ، فقال: يا رب من يدلني عليه؟ قال: يدلك عليه مركبك ، فركب أتانا له ، فخرج يطوف ، فقال: يا صاحب الجب ، فأجابه
دانيال ، فقال: قد أسمعت فما تريد؟ قال: أنا رسول الله إليك لأستخرجك من هذا الموضع ، فقال
دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ، والحمد لله الذي لا يكل من توكل عليه إلى غيره ، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانا ، وبالإساءة غفرانا . ثم استخرجه والسبعان يمشيان معه ، فعزم عليهما دانيال أن يرجعا إلى الغيضة .
وقد روينا أن
بخت نصر اتخذ صنما وأمر بالسجود له فلم يسجد
دانيال وأصحابه ، فأمر بهم فألقوا في أتون فلم يحترقوا .
أنبأنا
nindex.php?page=showalam&ids=17307يحيى بن ثابت بن بندار ، قال: أخبرنا أبي ، قال: أخبرنا
ابن دوما ، قال: أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=13812مخلد بن جعفر ، قال: أخبرنا
الحسن بن علي القطان ، قال: أخبرنا
إسماعيل بن عيسى العطار ، قال: حدثنا
أبو حذيفة القرشي ، قال: حدثنا
سعيد بن [ ص: 418 ] بشر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة ، عن
كعب ، قال: كان سبب استنقاذ بني إسرائيل من
أرض بابل أن
بخت نصر لما صدر من بيت المقدس بالأسارى ، وفيهم
دانيال وعزير ، فاتخذ بني إسرائيل خولا زمانا طويلا ، وإنه رأى رؤيا فزع منها ، فدعا كهنته وسحرته فأخبرهم بما أصابه من الكرب في رؤياه ، وسألهم أن يعبروها ، فقالوا: قصها علينا ، قال: قد أنسيتها ، فأخبروني بتأويلها ، قالوا: لا نقدر حتى تقصها ، فغضب وقال: قد أجلتكم ثلاثة أيام فإن أتيتموني بتأويلها وإلا قتلتكم .
وشاع ذلك في الناس ، فبلغ
دانيال وهو محبوس ، فقال لصاحب السجن: هل لك أن تذكرني للملك ، فإن عندي علم رؤياه ، وإني أرجو أن تنال بذلك عنده منزلة ، فقال له: إني أخاف عليك سطوة الملك ، لعل غم السجن حملك على أن تروح بما ليس عندك فيه علم ، قال
دانيال: لا تخف علي فإن لي ربا يخبرني بما شئت من حاجتي .
فانطلق صاحب السجن فأخبر
بخت نصر بذلك ، فدعا
دانيال فدخل ، ولا يدخل عليه أحد إلا سجد له ، فوقف
دانيال ولم يسجد ، فقال الملك لمن في البيت: اخرجوا ، فخرجوا ، فقال: ما منعك أن تسجد لي؟ قال: إن لي ربا أتاني هذا العلم على أن لا أسجد لغيره ، فخشيت أن أسجد لك فينسلخ عني العلم ثم أصير في يديك أميا لا تنتفع بي فتقتلني ، فرأيت ترك السجدة أهون من القتل ، وخطر سجدة أهون من الكرب الذي أنت فيه ، فتركت السجود نظرا إلى ذلك .
فقال
بخت نصر: لم يكن قط أوثق في نفسي منك حيث وفيت لإلهك ، وأعجب الرجال عندي الذين يوفون لأربابهم بالعهود ، فهل عندك علم بهذه الرؤيا التي رأيت؟
قال: نعم عندي علمها وتفسيرها .
قال: رأيت صنما عظيما ، رجلاه في الأرض ورأسه يمس السماء ، أعلاه من ذهب ووسطه من فضة ، وأسفله من نحاس ، وساقاه من حديد ، ورجلاه من فخار ، فبينا أنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه وإحكام صنعته قذفه الله بحجر من السماء فوقع على قبة رأسه ، فدقه حتى طحنه ، فاختلط ذهبه وفضته ونحاسه وحديده وفخاره حتى يخيل إليك
[ ص: 419 ] أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك ، ولو هبت الريح لأذرته .
ونظرت إلى الحجر الذي قذف به يربو ويعظم وينتشر حتى ملأ الأرضين كلها فصرت لا ترى [إلا] السماء والحجر .
قال له
بخت نصر: صدقت هذه الرؤيا التي رأيت . فما تأويلها؟ قال: أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان وفي أوسطه وفي آخره .
وأما الذهب فهذا الزمان ، وهذه الأمة التي أنت فيها وأنت ملكها . وأما الفضة ابنك من بعدك يملكها ، وأما النحاس فإنه الروم ، وأما الحديد ففارس ، وأما الفخار فأمتان تملكهما امرأتان إحداهما في مشرق
اليمن ، والأخرى في غربي
الشام .
وأما الحجر الذي قذف به الصنم؟ حذف الله به هذه الأمم في آخر الزمان ، فيظهر عليها حتى يبعث نبي أمي من العرب فيدوخ به الأمم والأديان كما رأيت الحجر دوخ أصناف الصنم ، ويظهره على الأديان والأمم كما رأيت الحجر ظهر على الأرض وانتشر فيها حتى ملأها ، فيحق الله به الحق ، ويزهق به الباطل ، ويعز به الأذلة ، وينصر به المستضعفين .
فقال له
بخت نصر: ما أعلم أحدا استفتيت به منذ وليت الملك على شيء غلبني غيرك ، ولا لأحد عندي يد أعظم من يدك ، وأنا أجازيك بإحسانك ، فاختر من ثلاث خلال أعرضهن عليك: إن أحببت أن أردك إلى بلادك ، وأعمر لك كل شيء خربته ، وإن أحببت كتبت لك أمانا تأمن به حيث ما ملكت ، وإن أحببت أن تقيم معي فأواسيك .
قال
دانيال: أما قولك تردني إلى بلادي وتعمر لي ما خربت ، فإنها أرض كتب الله عز وجل عليها الخراب وعلى أهلها الفناء إلى أجل معلوم ، فليس تقدر على أن تعمر ما خرب الله ولا ترد أجلا أجله الله حتى يبلغ الكتاب أجله ، وينقضي هذا البلاء الذي كتب الله على إيليا وأهلها .
وأما قولك: أن تكتب لي أمانا آمن به حيث ما توجهت ، فإنه لا ينبغي لي أن أطلب مع أمان الله أمان مخلوق .
[ ص: 420 ]
وأما ما ذكرت من مواساتك ، فإن ذلك أرفق لي يومي هذا حتى يقضى فينا قضاء .
فجمع
بخت نصر ولده وحشمه وأهل العلم والرأي من أهل المملكة ، فقال لهم: هذا رجل حكيم ، قد فرج الله به عني الكرب الذي عجزت عنه ، وإني رأيت أن أوليه أمركم ، فخذوا من أدبه وحكمته وأعظموا حقه ، فإذا جاءكم رسولان أحدهما مني والآخر من
دانيال فآثروا حاجته على حاجتي .
قال: فنزل منه
دانيال أفضل المنازل ، فجعل تدبير ملكه إليه ، فلما رأى ذلك عظماء أهل
بابل حسدوا
دانيال ، فاجتمعوا إلى
بخت نصر ، فقالوا له: لم يكن على الأرض ملك أعز من ملكنا ، ولا قوم أهيب في صدور أهل الأرض منا ، حتى دانت لنا الأرض ، والآن قد طمعوا فينا منذ قلدت ملكك هذا العبد الإسرائيلي ، فقال: أتنقموني أني عمدت إلى أحكم أهل الأرض ، فاستعنت به .
ثم إن
بخت نصر هلك ببعوضة سلطت عليه وملك مكانه ابنه
"بلطا" فبطش بطش الجبارين ، وكان يشرب الخمر في آنية مسجد بيت المقدس التي غنمها أبوه ، فنهاه
دانيال ، ثم قال له: إنك تقتل إلى ثلاثة ، ويسلب الله ملكك ، فدخل بيته وأغلق بابه ودعا أوثق الناس عنده ، وقال: الزم عتبة بابي فلا يمر بك أحد في هذه الأيام الثلاثة إلا قتلته ، وإن قال: إني أنا الملك .
فلما مضت الأيام الثلاثة قام الملك فخرج من الباب فرحا ، فمر بالحارس ، فقام الحارس فضربه بالسيف ، وهو يقول: أنا الملك ، فيقول: كذبت فقتله .
ورجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس ، فمكثوا بأحسن حال حتى مات
دانيال ، ثم كثرت فيهم الأحداث والبغي ، فسلط الله عليهم
أرطاصوس ، فقتل وسبى .
وهذا
دانيال من بني إسرائيل ، وهو مدفون
بالسوس ، ولما فتح
أبو موسى السوس دل على جثة
دانيال ، فقام رجل إلى جثته ، فكانت ركبة
دانيال محاذية رأسه ، وليس
بدانيال الأكبر ، فإن ذاك كان بين
نوح وإبراهيم ، وقد سبق ذكره .
[ ص: 421 ]
[ذكر الملوك بعد ذلك]
وتوفي
بهمن وكان ملكه مائة واثنتي عشرة سنة ، وقيل ثمانين سنة .
ثم ملكت بعده ابنته
خمانى ، واختلفوا في سبب تمليكها . فقال بعضهم: إنما ملكوها لعقلها ونجدتها وإحسان أبيها إليهم .
وقال آخرون: كانت حاملا من أبيها
بهمن بدارا الأكبر ، فسألت أباها أن يعقد له التاج وهو في بطنها ، ففعل . وكان
ساسان من امرأة أخرى ، وكان حينئذ رجلا ينتظر الملك لا يشك فيه ، فلما فعل أبوه ذلك لحق
بإصطخر وتزهد وتعبد في رؤوس الجبال ، واتخذ غنيمة ، فكان يتولاه بنفسه .
وقيل: إن
خمانى ولدت بعد أشهر من ملكها ، فأخفت من إظهار الولد ، فجعلته في تابوت ، وصيرت معه جوهرا نفيسا ، وأجرته تحت نهر من أنهار
إصطخر ، وقيل: من أنهار بلخ ، فوقع التابوت إلى رجل طحان من أهل
إصطخر ، فأخذه ورباه ، وظهر أمره حين شب ، وأقرت
خمانى بإساءتها إليه وتعريضها إياه للتلف ، فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون عليه أبناء الملوك ، فحولت التاج عن رأسها إليه ، وتقلد أمر المملكة ، وتنقلت
خمانى إلى فارس ، وبنت مدينة
إصطخر ، وقمعت الأعداء ، ومنعتهم من بلادها ، وأغزت
أرض الروم ، فسبي سبي كثير ، فأمرت أن يبنى لها في كل موضع بنيانا منيفا ، فأحد ذلك البنيان في مدينة
إصطخر .
والثاني على المدرجة التي يسلك فيها إلى دار بجرد على فرسخ من المدينة .
[والثالث على أربعة فراسخ منها في المدرجة التي تسلك فيها إلى
خراسان .
وإنها أجهدت نفسها في طلب مرضاة الله تعالى .
وكان ملكها ثلاثين سنة] .
[ ص: 422 ]
وكان بعض ملكها في زمن
كيرش العيلمي ، الذي ذكرنا آنفا أنه تولى بيت المقدس على بني إسرائيل .
وعاشت
خمانى بعد هلاك
كيرش ستا وعشرين سنة ، وكانت مدة خراب بيت المقدس من لدن خربه
بخت نصر إلى أن عمر سبعين سنة ، بعضها في أيام
بهمن ، وبعضها في أيام
خمانى .
وقد ذكرنا ما يدل على أن التخريب لبيت المقدس كان قبل ذلك ، والله أعلم .