ذكر
الأحداث المتعلقة بالعرب
قال مؤلف الكتاب: لما مات
بخت نصر انضم الذين أسكنوا
الحيرة من
العرب إلى
أهل الأنبار ، وبقي
الحيرة خرابا ، فغبروا بذلك زمانا طويلا ، لا يطلع عليهم أحد من
العرب ، وفي
الأنبار أهلها ومن انضم إليهم من
أهل الحيرة ومن قبائل
العرب من بني
إسماعيل ومن
معد بن عدنان ، وكثروا وملئوا بلادهم من
تهامة وما يليها ، ثم فرقتهم حروب وقعت بينهم ، وأحداث حدثت فيهم ، فخرجوا يطلبون الريف فيما يليهم من بلاد
اليمن والمشارق .
ونزل بعضهم
البحرين ، وكان بها جماعة من
الأزد كانوا نزلوها في زمان
عمران بن عمرو مزيقيا . ومزيقيا لقب عمرو ، وإنما لقب
مزيقيا [ ص: 49 ] لأنه كان يتخذ كل يوم حلتين من حلل الملوك ، فإذا أمسى مزقهما واستبدل بهما من الغد أخريين ، لأنه لم يكن يرى أحدا أهلا أن يلبس ثيابه . وهو
ابن عامر ، ويلقب
عامر: " ماء السماء بن حارثة " وهو الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد .
فاجتمع
بالبحرين جماعة من قبائل
العرب ، فتحالفوا [ على ] التنوخ - وهو المقام - وتعاقدوا على [ التوازر ] والتناصر ، فضمهم [ اسم ] تنوخ . فدعا
مالك بن زهير جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم أن يقيم معه فأقام ، فزوجه أخته
لميس ابنة زهير . وكان هذا كله في أزمان
ملوك الطوائف الذين ملكهم
الإسكندر ، وفرق البلدان بينهم عند قتله
دارا [ بن دارا ملك فارس ، إلى أن ظهر
أردشير بن بابك ] ملك فارس على
ملوك الطوائف ، وقهرهم ودان له الناس ، وضبط [ له ] الملك . وإنما سموا
ملوك الطوائف ، لأن كل ملك منهم كان ملكه قليلا من الأرض .
فتطلعت أنفس من كان
بالبحرين من
العرب إلى ريف
العراق ، وطمعوا في غلبة
الأعاجم على ما يلي
بلاد العرب منه ، أو مشاركتهم فيه ، فانقسموا فخرج كل رئيس من
العرب بمن معه على قوم .
[ ص: 50 ] ولم يزالوا كذلك لا يدينون
للأعاجم ولا تدين لهم
الأعاجم ، إلى أن قدم
الأنبار تبع - وهو أسعد أبو كرب بن مليكرب - في جيوشه ، فخلف بها من لم يكن فيه قوة للقتال ، وخرج للغزو .
ونزل كثير من تنوخ
الأنبار والحيرة ، وما بين
الحيرة إلى
طف الفرات وغربيه في الأبنية والمظال ، لا يسكنون بيوت المدر . وكانوا يسمون:
عرب الضاحية ، فكان أول من ملك منهم في زمان
ملوك الطوائف مالك بن فهم ، وكان منزله فيما يلي
الأنبار . ثم مات
nindex.php?page=showalam&ids=16867 [ مالك ] ، فملك بعده أخوه
عمرو بن فهم ، ثم هلك فملك بعده
جذيمة بن الأبرش [ بن مالك ] بن فهم بن غنم بن دوس الأزدي ، وكان من قبل
أردشير بن بابك .
وكان من أفضل ملوك
العرب رأيا ، وأشدهم نكاية ، وأبعدهم غورا ، وهو أول من استجمع له الملك بأرض
العراق ، وضم إليه
العرب ، وكان به برص ، فكنت
العرب عنه إعظاما له . فقيل:
جذيمة الوضاح ،
وجذيمة الأبرش ، وكانت منازله فيما بين
الحيرة والأنبار [ وبقة ] وهيت [ وناحيتها ] ،
وعين التمر ،
وأطراف البر .
[ ص: 51 ] وكان لا ينادم أحدا كبرا ، بل ينادم الفرقدين ، فإذا شرب قدحا صب لها قدحا . وكانت تجبى إليه الأموال ، وتفد عليه الوفود ، فخرج إلى غزو
طسم وجديس ، فأصاب
حسان بن تبع قد أغار على
طسم وجديس ، فانكفأ
جذيمة راجعا بمن معه . وكانت فيهم
الزرقاء ، واسمها: اليمامة ، وبها سمي بلدها:
اليمامة ، وهي من بنات
لقمان بن عاد ، وقيل: هي من
جديس وطسم .
فلما قصدهم جيش
حسان بن تبع بقي بينه وبينهم مسيرة ثلاثة أيام ، فأبصرتهم وقد حمل كل رجل منهم شجرة يسير بها ، فقالت: " تالله ، لقد دب الشجر - أو
حمير قد أخذت شيئا تجر " . فلم يصدقوها ، فقالت: " أقسم بالله لقد أرى رجلا منهم ينهش كتفا أو يخصف نعلا " ، فلم يستعدوا . فصبحهم
حسان فاجتاحهم ، فأخذها فشق عينيها ، وإذا فيها عروق من الإثمد .
قال مؤلف الكتاب: وبنظر هذه المرأة يضرب المثل . وكانت
زرقاء اليمامة قد نظرت إلى سرب من حمام طائر ، [ فإذا فيه ] ست وستون حمامة ، وعندها حمامة واحدة ، فقالت:
ليت الحمام ليه إلى حمامتيه ونصفه قديه
ثم الحمام ميه
[ ص: 52 ] فقال
النابغة يخاطب
النعمان ويقول:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام سراع وارد الثمد
أراد: كن حكما .
وكان
جذيمة قد تنبأ وتكهن ، واتخذ صنمين يقال: لهما: الضيزنان – ومكانهما
بالحيرة معروف - وكان يستسقي بهما ويستنصرهما على العدو .
وكانت
إياد بعين
أباغ ،
وأباغ : رجل من
العماليق نزل بتلك العين ، فكان يغازيهم ، فذكر
لجذيمة غلام من
لخم في أخواله من
إياد ، يقال له:
عدي بن نصر بن ربيعة ، له جمال وظرف ، فغزاهم
جذيمة ، فبعث
إياد قوما منهم فسقوا سدنة الصنمين الخمر ، وسرقوهما ، فأصبحا في
إياد ، فبعث إلى
جذيمة : إن صنميك أصبحا فينا زهدا فيك ورغبة فينا ، فإن أوثقت لنا ألا تغزونا رددناهما إليك .
فقال:
وعدي بن نصر تدفعونه إلي [ مع الصنمين ] فدفعوه إليه مع الصنمين ، فانصرف عنهم ، وضم
عديا إلى نفسه وولاه شرابه . فأبصرته
رقاش بنت مالك ، أخت جذيمة ، فعشقته وراسلته وقالت: يا
عدي ، اخطبني إلى الملك فإن لك حسبا وموضعا . فقال: لا أجترئ على كلامه في ذلك ، ولا أطمع أن يزوجنيك . قالت: فإذا جلس على شرابه وحضر ندماؤه فاسقه صرفا ، واسق القوم مزاجا ، فإذا أخذت الخمر منه فاخطبني إليه ، فإنه لن يردك ولن يمتنع منك ، فإذا زوجك فأشهد القوم .
[ ص: 53 ] ففعل [ الفتى ] ما أمرته ، فلما أخذت الخمر مأخذها ، خطبها إليه فأملكه إياها ، فأعرس بها من ليلته ، وأصبح مضرجا بالخلوق . فقال له
جذيمة : ما هذه الآثار يا
عدي ؟ قال: آثار العرس ، قال: أي عرس ؟ قال: عرس
رقاش ! قال: من زوجكها ؟ قال: الملك .
فضرب
جذيمة بيده على جبهته وأكب على الأرض ندامة وتلهفا ، وخرج
عدي على وجهه هاربا فلم ير له أثر ، ولم يسمع له بذكر ، وأرسل إليها
جذيمة فقال:
حدثيني وأنت لا تكذبيني أبحر زنيت أم بهجين!
أم بعبد فأنت أهل لعبد أم بدون فأنت أهل لدون
فقالت: لا ، بل أنت زوجتني [ امرءا ] عربيا ، معروفا حسيبا ، ولم تستأمرني في نفسي ، ولم أكن مالكة لأمري . فكف عنها وعرف عذرها .
ورجع
عدي بن نصر إلى
إياد ، فكان فيهم ، فخرج ذات يوم مع فتية متصيدين ، فرمى به فتى منهم بين جبلين فمات .
واشتملت
رقاش على حمل ، فولدت غلاما سمته
عمرا ، حتى إذا ترعرع عطرته وألبسته وحلته ، وأزارته خاله
جذيمة ، فلما رآه أعجب به وأحبه . وكان مع ولده ، فخرج
جذيمة متبديا بأهله وولده في سنة ذات خصب ، فضرب لهم أبنية في روضة ذات
[ ص: 54 ] زهرة وغدر ، وخرج ولده
وعمرو معهم يجتنون الكمأة ، فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها ، وإذا أصابها
عمرو خبأها في حجزته ، فانصرفوا إلى
جذيمة يتعادون
وعمرو يقول:
هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه
فضمه إليه
جذيمة والتزمه وسر بقوله وفعله ، وأمر فجعل له حلي من فضة وطوق من فضة . فكان
أول عربي ألبس طوقا ، فكان يسمى
عمرا ذا [ الطوق ] . فبينما هو على أحسن حاله
استطاره الجن [ فاستهوته ] ، فضرب
جذيمة في الآفاق فلم يقدر عليه .
وأقبل رجلان أخوان من
بلقين [ بهدايا يريدان
جذيمة ] يقال لهما:
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وعقيل ، فنزلا ببعض الطريق منزلا ومعهما قينة لهما يقال لها:
أم عمرو ، فقدمت إليهما طعاما ، فبينما هما يأكلان أقبل فتى عريان شاحب ، قد تلبد شعره وطالت أظفاره وساءت حاله ، فجاء حتى جلس حجرة منهما ، فمد يده إليهما يريد الطعام ، فناولته القينة كراعا [ فأكلها ] ثم مد يده إليها ، فقالت: " تعطي العبد كراعا فيطمع في الذراع " . فذهبت مثلا ، ثم ناولت الرجلين من شراب كان معها فأوكت زقها ، فقال
عمرو بن عدي :
[ ص: 55 ] صددت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو بصاحبك الذي لا تصحبينا
! فقال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وعقيل : من أنت يا فتى ؟ فقال: أنا
عمرو بن عدي .
فنهضا إليه فضماه وغسلا رأسه ، وقلما أظفاره ، وأخذا من شعره وألبساه مما كان معهما من الثياب ، وقالا: ما كنا لنهدي
لجذيمة هدية هي أنفس عنده ، ولا أحب إليه من ابن أخته ، وقد رده الله عليه بنا .
فخرجا به إلى
جذيمة بالحيرة ، فسر بذلك سرورا شديدا ، وأرسل به إلى أمه ، فمكث عندها أياما ثم أعادته إليه ، فقال: لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق ، فما ذهب عن عيني ولا قلبي إلى الساعة . فأعادوا عليه الطوق ، فلما نظر إليه قال: " شب
عمرو عن الطوق " ، فأرسلها مثلا ، وقال
لمالك وعقيل : حكمكما ، فقالا: حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت ، فهما ندمانا
جذيمة اللذان ذكرا في أشعار
العرب .
وفي ذلك يقول
أبو خراش الهذلي الشاعر:
لعمرك ما ملت كبيشة طلعتي وإن ثوائي عندها لقليل
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا نديما صفاء nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وعقيل
وقال
متمم بن نويرة :
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وكان ملك
العرب بأرض الجزيرة ومشارف
بلاد الشام عمرو بن [ ص: 56 ] ظرب - وقيل: ظريف - بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العليقمي .
فجمع
جذيمة جموعه من
العرب ، فسار إليه يريد غزاته ، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل
عمرو بن ظرب وفضت جموعه ، وانصرف
جذيمة بمن معه سالمين غانمين .
فملكت من بعد
عمرو ابنته
الزباء ، واسمها: نائلة ، وكان جنود
الزباء بقايا من
العماليق ، والعارية الأولى من قبائل
قضاعة ، وكان
للزباء أخت يقال لها:
زبيبة ، فبنت لها قصرا حسنا على شاطئ
الفرات الغربي ، وكانت تشتو عند أختها ، وتربع
ببطن النجار ، وتصير إلى
تدمر .
فلما أن استجمع لها أمرها واستحكم لها ملكها ، أجمعت لغزو
جذيمة الأبرش تطالب بثأر أبيها ، فقالت لها أختها
زبيبة - وكانت على
الشام والجزيرة من قبل
الروم ، وكانت ذات رأي ودهاء: يا
زباء ، إنك إن غزوت
جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده ، إن ظفرت أصبت ثأرك ، وإن قتلت ذهب ملكك ، والحرب سجال ، وعثراتها لا تقال ، وإن كعبك لم يزل ساميا على من ناوأك وساماك ، ولم تري بؤسا ولا غيرا ، ولا تدرين لمن تكون العاقبة ، [ ولا ] على من تكون الدائرة! فقالت لها
الزباء : قد أديت النصيحة ، وأحسنت الروية ، وإن الرأي ما رأيت ، والقول ما قلت .
[ ص: 57 ]
فانصرفت عما كانت أجمعت عليه من غزو
جذيمة ، وأتت أمرها من وجه الخداع والمكر . فكتبت إلى
جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها ، وأن يصل بلاده ببلادها ، وكان فيما كتبت إليه: أنها لم تجد ملك النساء إلا [ قبحا ] في السماع ، وضعف السلطان ، وقلة ضبط المملكة ، وإنها لم تجد لملكها موضعا ولا لنفسها كفئا غيره ، فاجمع ملكي إلى ملكك ، وصل بلادي ببلادك ، وتقلد أمري مع أمرك .
فلما انتهى كتاب
الزباء إلى
جذيمة استخفه ما دعته إليه ، ورغب فيما أطمعته فيه ، وجمع إليه أهل [ الحجى ] والنهى ، من ثقات أصحابه ، وهو
بالبقة من شاطئ
الفرات ، فعرض عليهم ما دعته إليه
الزباء ، واستشارهم ، فأجمع رأيهم على أن يسير إليها ، ويستولي على ملكها ، وكان فيهم رجل يقال له:
قصير بن سعد بن عمرو ، وكان
سعد قد تزوج أمة
لجذيمة ، فولدت له
قصيرا ، وكان حازما مقدما عند
جذيمة ، فخالفهم فيما أشاروا به ، وقال: " رأي فاتر ، وعدو حاضر " . فذهبت مثلا .
وقال
لجذيمة : اكتب إليها ، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك ، وإلا لم تمكنها من نفسك ولم تقع في حبالها ، وقد قتلت أباها . فلم يوافق
جذيمة ما أشار به عليه
قصير ، وقال له: " إنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح " . فذهبت مثلا .
ودعا
جذيمة ابن أخته
عمرو بن عدي فاستشاره ، فشجعه على السير . فاستخلف
[ عمرا ] ، وسار في وجوه أصحابه ، فلما نزل
رحبة طوق دعا
قصيرا ، فقال: ويحك ما الرأي ؟ قال له: "
ببقة تركت الرأي " ، فذهبت مثلا .
[ ص: 58 ]
واستقبلته رسل
الزباء بالهدايا والألطاف ، فقال: [ يا
قصير ] ، كيف ترى ؟ قال: " خطر يسير في خطب كبير " . فذهبت مثلا . وقال له
قصير : ستلقاك الخيول ، فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة ، وإن أحاطت بك فالقوم غادرون ، فاركب العصا - وكانت فرسا
لجذيمة لا تجارى - فإني راكبها ومسايرك [ عليها ] .
فلقيته الخيول فحالت بينه وبين العصا ، فركبها
قصير موليا ، فقال: " ويل أمه حزما على ظهر العصا! " فذهبت مثلا . فجرت به إلى غروب الشمس ثم نفقت وقد قطعت أرضا بعيدة ، فبنى عليها برجا يقال له: برج العصا .
ودخل
جذيمة على
الزباء فقتلته ، ورجع
قصير إلى
عمرو بن عدي ، فقال: تهيأ ولا تطل دم خالك . قال: " وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو ؟ " . فذهبت مثلا . وكانت
الزباء سألت كاهنة لها عن ملكها وأمرها ، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مهين ، وهو
عمرو بن عدي ، ولكن حتفك بيدك ، ومن قبله يكون ذلك .
فحذرت من
عمرو ، وأخذت نفقا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها داخل مدينتها ، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني . ودعت رجلا مصورا ، فجهزته وقالت [ له ]: سر حتى تقدم على
عمرو بن عدي متنكرا ، فتخلو بحشمه وتخالطهم ، ثم أثبت
عمرو بن عدي معرفة فصوره جالسا وقائما ، وراكبا ومتفضلا ، ومتسلحا بهيئته وثيابه ، فإذا أحكمت ذلك فأقبل إلي .
[ ص: 59 ] فانطلق وصنع ما أمرته به ، وأرادت أن تعرف
عمرو بن عدي فلا تراه على حال إلا عرفته وحذرته وعلمت علمه . فقال
قصير لعمرو بن عدي : اجدع أنفي واضرب ظهري ، ودعني وإياها ، فقال
عمرو : ما أنا بفاعل وما أنت لذلك بمستحق مني . فقال
قصير : " خل عني إذا وخلاك ذم " . فذهبت مثلا .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12861ابن الكلبي : كان أبوها اتخذ لها النفق ولأختها ، وكان الحصن لأختها في داخل مدينتها ، قال: فقال له
عمرو : فأنت أبصر ، فجدع أنفه وضرب ظهره ، فقالت
العرب : " لمكر ما جدع
قصير أنفه " . وفي ذلك يقول المتلمس:
ومن حذر الأوتار ما جز أنفه قصير وخاض الموت بالسيف بيهس
ثم خرج
قصير كأنه هارب ، وأظهر أن
عمرا فعل به ذلك ، وأنه يزعم أنه مكر بخاله
جذيمة ، وغره من
الزباء . فسار
قصير حتى قدم عليها ، فتسبب في قتلها .
وقال مؤلف الكتاب: وقد رويت لنا هذه القصة على خلاف هذا ، وأن
جذيمة طرد
الزباء ثم طلب أن يتزوجها ، ونحن نوردها لتعلم قدر الاختلاف .
أنبأنا
محمد بن عبد الملك بن خيرون ، أنبأنا
nindex.php?page=showalam&ids=14231أحمد بن علي بن ثابت [ الخطيب ] قال: أخبرنا
علي بن الحسين بن موسى العلوي ، قال: حدثنا
أبو محمد: سهل بن أحمد الديباجي ، قال: أخبرنا
قاسم بن جعفر السراج ، قال: أخبرنا
يعقوب بن الناقد ، قال: أخبرنا
أحمد بن عمرو بن الفرج ، قال: أخبرنا أبي ، عن
يونس بن حبيب النحوي . قال
الديباجي : وحدثنا
القاضي أبو محمد: عبد الله بن أحمد الربعي ، قال:
[ ص: 60 ] حدثنا
أحمد بن عبيد بن ناصح ، قال: حدثنا
ابن محمد الكلبي ، عن أبيه ، قال:
كان
جذيمة بن مالك ملكا على
الحيرة وعلى ما حولها من السواد - ملك ستين سنة - وكان به وضح ، وكان شديد السلطان ، قد خافته
العرب ، وتهيبه العدو ، فتهيبت
العرب أن يقولوا الأبرص ، فقالوا: الأبرش . فغزا
مليح بن البراء ، وكان ملكا على الحضر ، وهو الحاجز بين
الروم والفرس . وهو الذي ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=16559عدي بن زيد في قوله:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة تجبى إليه والخابور
فقتله
جذيمة ، وطرد
الزباء إلى
الشام ، فلحقت
بالروم ، وكانت عربية اللسان ، حسنة البيان ، شديدة السلطان ، كبيرة الهمة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12861ابن الكلبي : ولم تكن في نساء عصرها أجمل منها ، وكان اسمها:
فارعة ، وكان لها شعر إذا مشت سحبته وراءها ، وإذا نشرته جللها ، فسميت
الزباء .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12861ابن الكلبي : فبعث
عيسى ابن مريم بعد قتل أبيها ، فبلغت بها همتها أن جمعت الرجال ، وبذلت الأموال ، وعادت إلى ديار أبيها ومملكته ، فأزالت
جذيمة الأبرش عنها ، وابتنت على عراقي
الفرات مدينتين متقابلتين من شرقي
الفرات وغربيه ، وجعلت بينهما نفقا تحت
الفرات ، فكان إذا رهقها عدو أوت إليه وتحصنت به ، وكانت قد اعتزلت الرجال ، فهي عذراء بتول .
وكان بينها وبين
جذيمة مهادنة ، فحدث
جذيمة نفسه بخطبتها ، فجمع خاصته فشاورهم في ذلك ، وكان له ابن عم يقال له:
قصير بن سعد ، وكان عاقلا لبيبا ، وكان خازنه وصاحب أمره وعميد دولته ، فسكت القوم وتكلم
قصير فقال: أبيت اللعن أيها الملك ، إن
الزباء امرأة قد حرمت الرجال ، فهي
[ ص: 61 ] عذراء بتول ، لا ترغب في مال ولا جمال ، ولها عندك ثأر والدم لا ينام ، وإنما تاركتك وهنة وحذارا من بطشك ، والحقد دفين في سويداء القلب ، له كمون ككمون النار في الحجر ، إن أقدحته أورى ، وإن تركته توارى ، وللملك في بنات الأكفاء متسع ، ولهن فيه مقنع ، وقد رفع الله قدرك عن الطمع في من دونك ، وعظم شأنك ، فما أحد فوقك .
فقال
جذيمة : يا
قصير ، الرأي ما رأيته ، والحزم فيما قلته ، و [ لكن ] النفس تواقة ، وإلى ما تحب وتهوى مشتاقة ، ولكل امرئ قدر لا مفر منه ولا وزر . فوجه إليها خاطبا ، وقال: ائت
الزباء فاذكر لها ما يرغبها فيه وتصبو إليه . فجاءها خطيبه ، فلما سمعت كلامه وعرفت مراده ، قالت له: أنعم بك عينا وبما جئت به وله .
وأظهرت له السرور به ، والرغبة فيه ، وأكرمت مقدمه ورفعت موضعه ، وقالت: [ قد كنت ] أضربت عن هذا الأمر خوفا أن لا أجد كفؤا ، والملك فوق قدري ، وأنا دون قدره ، وقد أجبت إلى ما سأل ، ورغبت فيما قال ، ولولا أن السعي في مثل هذا الأمر بالرجال أجمل لسرت إليه ، ونزلت عليه . وأهدت له هدية سنية ، فساقت العبيد ، والإماء ، والكراع ، والسلاح ، والأموال ، والإبل ، والغنم ، وحملت من الثياب والعين والورق .
فلما رجع إليه خطيبه أعجبه ما سمع من الجواب ، وأبهجه ما رأى من اللطف ، فظن أن ذلك بحصول رغبة ، فأعجبته نفسه ، وسار من فوره في من يثق به من خاصته وأهل مملكته ، وفيهم
قصير خازنه .
واستخلف على ملكه ابن أخته
عمرو بن عدي اللخمي ، وهو أول ملوك
الحيرة [ من
لخم ] ، وكان ملكه عشرين ومائة سنة ، وهو الذي اختطفته الجن وهو
[ ص: 62 ] صبي وردته وقد شب وكبر ، فقالت أمه: ألبسوه الطوق ، فقال خاله
جذيمة : " شب
عمرو عن الطوق " . فذهبت مثلا .
وسار إلى
الزباء ، فلما صار معه نزل فتصيد وأكل وشرب ، واستغنى بالمشورة والرأي من أصحابه ، فسكت القوم وافتتح الكلام
قصير بن سعد ، فقال: أيها الملك ، كل عزم لا يؤيد بحزم ، فإلى آخر ما يكون كون فلا يثق به خرف قول لا محصول له ، ولا يعقد الرأي بالهوى فيفسد ، ولا الحزم بالمنى فينفذ ، والرأي عندي للملك أن يعقب أمره بالتثبت ، ويأخذ حذره بالتيقظ ، ولولا أن الأمور تجري بالمقدور لعزمت على الملك عزما بتا أن لا يفعل .
فأقبل
جذيمة على الجماعة فقال: ما عندكم أنتم في هذا الأمر ؟ فتكلموا بحسب ما عرفوا من رغبة الملك في ذلك وصوبوا رأيه ، وقووا عزمه ، فقال
جذيمة : الرأي مع الجماعة ، والصواب ما رأيتم ، فقال
قصير : " أرى القدر سابق بالحذر فلا يطاع لقصير أمر " . فأرسلها مثلا .
وسار
جذيمة ، فلما قرب من ديار
الزباء نزل فأرسل إليها يعلمها بمجيئه ، فرحبت به ، وأظهرت السرور والرغبة به ، وأمرت أن تحمل إليه الأموال والعلو ، فأتت وقالت لجندها ، وخاصة أهل مملكتها وعامة أهل دولتها: تلقوا سيدكم وملك دولتكم . وعاد الرسول إليه بالجواب بما رأى وسمع ، فلما أراد
جذيمة أن يسير ، دعا
قصيرا ، فقال: أنت على رأيك ؟ قال: نعم وقد زادت [ بصيرتي فيه ، أفأنت على عزمك ؟
قال: نعم وقد زادت ] رغبتي فيه . فقال
قصير : ليس للأمور بصاحب من لم ينظر في العواقب ، وقد يستدرك الأمر قبل فوته ، وفي يد الملك بقية هو بها متسلط على استدراك
[ ص: 63 ] الصواب ، فإن وثقت بأنك ذو ملك وسلطان ، وعزة ومكان ، فإنك قد نزعت يدك من سلطانك ، وفارقت عشيرتك ومكانك ، وألقيتها في يدي من لست آمن عليك مكره وغدره ، فإن كنت ولا بد فاعلا ، ولهواك تابعا ، فإن القوم إن يلقوك غدا فرقا وساروا أمامك ، وجاء قوم وذهب قوم ، فالأمر بعد في يدك ، والرأي فيه إليك ، فإن تلقوك زردقا واحدا ، وقاموا لك صفين حتى إذا توسطتهم انقضوا عليك من كل جانب فأحدقوا بك ، فقد ملكوك وصرت في قبضتهم ، وهذه العصا لا تسبق غبارها - وكانت
لجذيمة فرس تسبق الطير ، وتجاري الرياح يقال لها: عصا - فإذا كان كذلك فتجلل ظهرها ، فهي ناجية بك إن ملكت ناصيتها ، فسمع
جذيمة كلامه ، ولم يرد جوابا ، وسار .
وكانت
الزباء لما رجع رسول
جذيمة من عندها قالت لجندها: إذا أقبل
جذيمة [ غدا ] فتلقوه بأجمعكم وقوموا له صفين من عن يمينه ومن عن شماله ، فإذا توسط جمعكم فتفوضوا عليه من كل جانب حتى تحدقوا به ، وإياكم أن يفوتكم .
وسار
جذيمة وقصير عن يمينه ، فلما لقيه القوم زردقا واحدا قاموا له صفين ، فلما توسطهم انقضوا عليه من كل جانب انقضاض الأجدل على فريسته ، فأحدقوا به ، وعلم أنهم قد ملكوه ، وكان
قصير يسايره ، فأقبل عليه ، وقال: صدقت يا
قصير . فقال
قصير : أيها الملك ، " أبطأت بالجواب حتى فات الصواب " . فأرسلت مثلا .
فقال: كيف الرأي الآن ؟ فقال: هذه العصا فدونكها ، لعلها تنجو بك - أو
[ ص: 64 ] قال: تنجو بها وهو الأصح - فأنف
جذيمة من ذلك ، وسارت به الجيوش ، فلما رأى
قصير أن
جذيمة قد استسلم للأسر وأيقن بالقتل جمع نفسه ، فصار على ظهر العصا وأعطاها عنانها وزجرها ، فذهبت به تهوي هوي الريح ، فنظر إليه
جذيمة وهي تتطاول به .
وأشرفت
الزباء من قصرها ، فقالت: ما أحسنك من عروس تجلى علي وتزف إلي . حتى دخلوا [ به ] على
الزباء ولم يكن معها في قصرها إلا جوار أبكار أتراب ، وكانت جالسة على سريرها وحولها ألف وصيفة ، كل واحدة لا تشبه صاحبتها في خلق ولا زي ، وهي بينهن كأنها قمر قد حفت به النجوم تزهر ، وأمرت بالأنطاع فبسطت ، وقالت لوصيفاتها: خذوا بيد سيدكن وبعل مولاتكن . فأخذن بيده ، فأجلسنه على الأنطاع بحيث تراه ويراها ، [ وتسمع كلامه ويسمع كلامها ] ، ثم أمرت الجواري فقطعن دواهيه ، ووضعت الطشت تحت يده ، فجعلت دماؤه تشخب في الطشت ، فقطرت قطرة في النطع ، فقالت لجواريها: لا تضيعوا دم الملك ، فقال
جذيمة : لا يحزنك دم أراقه أهله .
فلما مات قالت: والله ما وفى دمك ولا شفى قتلك ، ولكنه غيض من فيض . ثم أمرت به فدفن .
وكان
جذيمة قد استخلف على مملكته ابن أخته:
عمرو بن عدي ، وكان يخرج كل يوم إلى ظهر
الحيرة يطلب الخبر ، ويقتفي الأثر من خاله ، فخرج ذات يوم ينظر إلى فارس [ قد أقبل ] تهوي به فرسه هوي الريح ، فقال: أما الفرس ففرس
جذيمة ، وأما الراكب فكالبهيمة ، لأمر ما جاءت العصا ، فأشرف عليهم
قصير ، فقالوا: ما وراءك ؟ قال: سعى القدر بالملك إلى حتفه رغم أنفي وأنفه ، فاطلب بثأرك من
الزباء ، فقال
عمرو :
[ ص: 65 ] وأي ثأر يطلب من
الزباء وهي أمنع من عقاب الجو ، فقال
قصير : قد علمت نصحي [ كيف ] كان لخالك ، وكان الأجل رائده ، وإني والله لا أنام عن الطلب بدمه ما لاح نجم وطلعت شمس ، أو أدرك به ثأرا أو تحرم نفسي فأعذر .
ثم أنه عمد إلى أنفه فجدعه ، ثم لحق
بالزباء هاربا من
عمرو بن عدي ، فقيل لها: هذا
قصير ابن عم جذيمة وخازنه وصاحب أمره قد جاءك ، فأذنت له ، فقالت: ما الذي جاء بك يا
قصير وبيننا وبينك دم عظيم الخطر ؟ فقال: يا ابنة الملوك العظام ، لقد أتيت فيما يأتي مثلك في مثله ، لقد كان دم الملك يطلبه حتى أدركه ، وقد جئتك مستجيرا بك من
عمرو بن عدي ، فإنه اتهمني بخاله وبمشورتي عليه في المسير [ إليك ] ، فجدع أنفي ، وأخذ مالي ، وحال بيني وبين عيالي ، وتهددني بالقتل ، وإني خشيت على نفسي فهربت منه إليك ، وأنا مستجير بك ، ومستند إلى كهف عزك .
فقالت: أهلا وسهلا ، لك حق الجوار ودية المستجير . وأمرت به فأنزل [ وأجريت له الأنزال ] ووصلته وكسته ، وأخدمته وزادت في إكرامه ، فأقام مدة لا يكلمها ولا تكلمه ، وهو يطلب الحيلة عليها ، وموضع الفرصة منها ، وكانت متمنعة بقصر مشيد على باب النفق تعتصم به فلا يقدر أحد عليها .
فقال لها
قصير [ يوما ]: إن لي
بالعراق مالا كثيرا وذخائر نفيسة مما يصلح للملوك ، فإن أذنت لي بالخروج إلى
العراق ، وأعطيتني شيئا أتعلل به في التجارة ، وأجعله سببا إلى الوصول إلى مالي ، أتيتك بما قدرت عليه من ذلك .
فأعطته مالا بعد ما أذنت له ، فقدم
العراق وبلاد كسرى ، فأطرفها وألطفها
[ ص: 66 ] وسرها ، وبنت له عندها منزلا ، وعاد إلى
العراق ثانية ، فقدم بأكثر من ذلك طرفا من الجواهر ، والبز ، والخز ، والقز ، والديباج ، فازداد مكانه عندها ، وازدادت منزلته عندها ، ورغبتها فيه ، ولم يزل
قصير يتلطف حتى عرف موضع النفق الذي تحت
الفرات ، والطريق إليه .
ثم خرج ثالثة فقدم بأكثر من الأوليين طرائف ولطائف ، فبلغ مكانه [ منها ] وموضعه عندها إلى أن كانت تستعين به في مهمها وملمها ، فاسترسلت إليه وعولت عليه في أمورها كلها . وكان
قصير رجلا حسن العقل والوجه ، حصيفا أديبا لبيبا ، فقالت له يوما: أريد أن أغزو البلد الفلاني من
أرض الشام ، فاخرج إلى
العراق فأتني بكذا وكذا من السلاح والكراع والعبيد والثياب فقال
قصير : ولي في بلاد
عمرو بن عدي ألف بعير وخزانة من السلاح فيها كذا وكذا ، وما يعلم
عمرو بن عدي بها ، ولو علم لأخذها واستعان بها على حربك ، وكنت أتربص به المنون وأنا أخرج متنكرا من حيث لا يعلم ، فآتيك بها مع الذي سألت .
فأعطته من المال ما أراد ، وقالت: يا
قصير ، الملك يحسن بمثلك وعلى يد مثلك يصلح أمره ، ولقد بلغني أن أمر
جذيمة كان إيراده وإصداره إليك ، وما تقصر يدك عن شيء تناله يدي ، ولا يقعد بك حال تنهض بي .
فسمع كلامها رجل من خاصة قومها ، فقال: أسد خادر وليث زائر ، قد تحفز للوثبة . ولما رأى
قصير مكانه منها وتمكنه من قلبها ، قال: الآن طاب المصاع . وخرج من عندها ، فأتى
عمرو بن عدي وقال: أصبت الفرصة من
الزباء ، فانهض فعجل الوثبة ، فقال له
عمرو : قل يسمع ، ومر أفعل ، فأنت طبيب هذه القرحة ، فقال: الرجال والأموال . فقال: حكمك فيما عندنا مسلط . فعمد إلى ألفي رجل من فتاك قومه
[ ص: 67 ] وصناديد أهل مملكته ، فحملهم على ألف بعير في الغرائر السود ، وألبسهم السلاح والسيوف والحجف ، وأنزلهم في الغرائر ، وجعل [ رءوس ] المسوح من أسافلها مربوطة من داخل ، وكان
عمرو فيهم . وساق الخيل والعبيد والكراع والسلاح والإبل محملة .
فجاءها البشير فقال: قد جاء
قصير . ولما قرب من المدينة حمل الرجال في الغرائر متسلحين السيوف والحجف ، وقال: إذا توسطت الإبل المدينة والأمارة بيننا كذا وكذا فاخرطوا الربط . فلما قربت العير من مدينة
الزباء في قصرها ، فرأت الإبل تتهادى بأحمالها فارتابت منها ، وقد كان وشي
بقصير إليها ، وحذرت منه ، فقالت للواشي [ به إليها ] إن
قصيرا اليوم منا ، وهو ربيب هذه النعمة ، وصنيعة هذه الدولة ، وإنما يبعثكم [ على ] ذلك الحسد ، وأن ليس فيكم مثله ، فهالها ما رأت من كثرة الإبل وعظم أحمالها في نفسها [ مع ما عندها ] من قول الواشي به إليها:
أرى الجمال سيرها وئيدا أجندلا يحملن أم حديدا
[ ص: 68 ] أم صرفانا باردا شديدا أم الرجال في المسوح سودا
ثم أقبلت على جواريها وقالت: " أرى الموت الأحمر في الغرائر السود " - فذهبت مثلا - حتى إذا توسطت الإبل المدينة وتكاملت ، ألغز إليهم الأمارة ، فاخترطوا رءوس الغرائر ، فوقع إلى الأرض ألفا ذراع بألفي باتر ونادوا: يا لثأر القتيل غدرا .
وخرجت
الزباء تمضي تريد النفق ، فسبقها إليه
قصير ، فحال بينها وبينه ، فلما رأت أن قد أحيط [ بها ] وملكت التقمت خاتما في يدها تحت فصه سم ساعة ، وقالت: " بيدي لا بيدك يا
عمرو " فأدركها
عمرو وقصير ، فضرباها بالسيف حتى هلكت ، وملكا مملكتها ، واحتويا على مملكيها ونعمتها ، وخط
قصير على
جذيمة قبرا ، وضرب عليه فسطاطا ، وكتب على قبره يقول:
ملك تمنع بالعساكر والقنا والمشرفية عزة ما توصف
فسعت منيته إلى أعدائه وهو المتوج والحسام المرهف
قال علماء السير: وصار الملك من بعد
جذيمة لابن أخته
عمرو بن عدي ، وهو
أول من اتخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب ، وأول من مجده
أهل الحيرة في كتبهم من ملوك
العرب بالعراق ، وإليه ينسبون ، وهم ملوك
آل نصر .
قالوا: عمرت
الأنبار خمسمائة سنة وخمسين سنة ، إلى أن عمرت
الحيرة في زمن
عمرو بن عدي .
[ ص: 69 ] وعمرت
الحيرة خمسمائة سنة وبضعا وثلاثين سنة إلى أن وضعت
الكوفة ، ونزلها أهل الإسلام ، فلم يزل
عمرو بن عدي ملكا إلى أن مات وهو ابن مائة وعشرين سنة . قيل: مائة وثماني عشرة سنة .
ومن ذلك في زمن
أردشير ، ومن
ملوك الطوائف خمس وتسعون سنة .
وفي [ زمن ] ملوك فارس ثلاث وعشرون .
ومن ذلك في زمن
أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر .
وفي زمن
سابور بن أردشير ثماني سنين وشهران .
وما زال عقب
عمرو بن عدي بعده لهم الملك متصلا على كل من بنواحي
العراق وبادية الحجاز من
العرب باستعمال
ملوك فارس إياهم على ذلك ، واستكفائهم أمر من وليهم من
العرب ، إلى أن قتل
أبرواز بن هرمز النعمان بن المنذر ، ونقل ما كانت
ملوك فارس يجعلونه إليهم إلى غيرهم .
والنعمان من أولاد
نصر أيضا ، لأنه
النعمان بن المنذر بن ماء السماء بن عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة .
قال
أبو جعفر بن الطبري : ما زال على ثغر
العرب من قبل
ملوك الفرس من
آل ربيعة إلى أن ولي
عمرو بن هند ، ثم ولي بعده [ أخوه ]
قابوس بن المنذر ، ثم ولي أربع سنين: من ذلك في زمن
أنوشروان ثمانية أشهر ، وفي زمن
هرمز ثلاث سنين وأربعة أشهر ، ثم ولي بعده
السهرب ، ثم [ ولي ] بعده
المنذر أبو النعمان بن المنذر أربع سنين ، ثم بعده
النعمان بن المنذر أبو قابوس اثنتين وعشرين سنة: من ذلك في زمن
هرمز سبع سنين وثمانية أشهر ، وفي زمن
أبرويزا أربع عشرة سنة وأربعة أشهر ، ثم ولي
إياس بن قبيصة الطائي تسع سنين ، ولسنة وثمانية أشهر من ولايته بعث رسول
[ ص: 70 ] الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استخلف
أزادية الهمداني سبع عشرة سنة ، ثم استخلف ولي
المنذر بن النعمان بن المنذر ثمانية أشهر ، إلى أن قدم
nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد الحيرة ، وكان آخر من بقي من
آل نصر . فجميع ملوك
آل نصر عشرون ملكا ، ملكوا خمس مائة واثنتين وعشرين سنة وثمانية أشهر .