وفي يوم الجمعة الثالث من ربيع الأول: ركب جماعة من القواد فقطعوا خطبة جلال الدولة ، وبلغه ذلك فأزعجه وبعث خواص جواريه إلى دار الخلافة ، وغيرها وخير الباقيات بين أن يعتقن أو يأخذن لنفوسهن ، ومنهن من أعتق ومنهن من مضى إلى من كن له من قبل ، ثم اجتمع الغلمان وراسلوا الملك ، فقالوا: قد علمت ما وافقتنا عليه من الانحدار إلى
واسط ، والوجه أن تستخير الله في ذلك ، فقال: إنما قررتم من يخرج معي من يسلم إلى
البصرة ، فإما أن أخرج على غير قاعدة فما أفعل ، وامتلأ جانبا
دجلة وشطها بالناس والسميريات ، وترددت الرسل إلى الملك بالمطالبة بالخروج ، فقال: ابعثوا معي مائة غلام يحرسونني في طريقي ، فقالوا: لا يمكن مائة ، ولكن عشرون ، فقال: أريد شفيقا يحملني ونفقة تنهضني ، فقرروا بينهم إطلاق ستين دينارا لنفقة من يصحبه من الغلمان ، والتزم بعض القواد منها ثلاثة دنانير ونصفا .
فلما كان الليل من ليلة الاثنين سادس ربيع الأول خرج في نفر من غلمانه ، فمضى إلى عكبرا على وجه المخاطرة ، فتبادر الغلمان إلى دار المملكة ، فنهبوا ما فيها وكتب الإصفهلارية عن نفوسهم ، وعن فرق من الغلمان وطوائفهم كتبا إلى الملك
أبي كاليجار بما فعلوه في خدمته ، وهنئوه باجتماع الكلمة على طاعته ، واستدعوا منه إنفاذ من يدبر الأمور ويحفظ نظام الجمهور ، وأخرجوا بها ركابية ، فقال: هؤلاء الأتراك يكتبون ما لا يعقدون الوفاء به ويعدون ولا يصدقون ، فإن كانوا محقين في طاعتهم فليظهروا شعارنا ، وليخرجوا من عندهم ولا أقل من أن يخرجوا إلينا منهم خمسمائة غلام ليكون توجهنا معهم ، فأما بالاغترار بأقوال لا يعرف ما وراءها فلا والوجه أن يعلل القوم بالمدافعة وتوقعوا ما تحدثه الأيام ، فإنهم في كل يوم يضعفون وتدعوهم الضرورة إلينا ، فنأخذ الأمر عفوا ، ونربح المال الذي ننفقه ، والغرر الذي نركبه ، وكان من وزراء
أبي كاليجار أبو منصور بن فنه ، وكان فاضلا ومن آثاره دار كتب وقفها على طلاب العلم
[ ص: 225 ] جمع فيها تسعة عشر ألف مجلد ما فيها إلا أصل منسوب ، وفيها أربعة آلاف ورقة بخط بني مقلة ، ثم اختلت المملكة ، وقطع عن جلال الدولة المادة حتى أخرج من ثيابه وآلاته الحقيرة وباعها في الأسواق ، وخلت داره من حاجب وفراش وبواب ، وصار أكثر الأبواب مغلقا ، وقطع ضرب الطبل له في أكثر الأيام لانقطاع الطبالين ، وظهر العيارون ، وكثر الاستقفاء والكبسات ، ومد الأتراك أيديهم إلى الغصوب ، وتشاور القواد في أن يخطب للملك
أبي كاليجار ، فقال بعضهم: لا نخطب لأحد حتى تستقر أمورنا معه ، وخرج الملك إلى عكبرا ، وقصد حلة
كمال الدولة أبي سنان فاستقبله وقبل الأرض بين يديه ، وقال له: خزانتي وأموالي وبلادي لك ، وأنا أتوسط بينك وبين جندك ، وزوجه ابنته ثم مضى إليه جماعة من الجند واعتذروا مما فعلوا ، وأعيدت خطبة جلال الدولة في السابع عشر من ربيع الأول ، فأقيمت في جامع
المدينة ، وجامع الرصافة ، ولم تقم في جامع الخليفة ، ثم أقيمت فيه في الجمعة الثالثة .
وفي يوم السبت الثامن عشر منه: خرج
أبو منصور بن طاس الحاجب ، وأبو القاسم علي بن أبي علي ، وخادمان إلى حضرة الملك بكتاب من الخليفة يتضمن الاستيحاش لبعده ، ويهنئه بالسلامة وإسفار الأمور عن الاستقامة ، ثم بعث الخليفة القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=15151أبا الحسن الماوردي ، ومبشرا الخادم إلى
الملك أبي كاليجار إلى
الأهواز بكتاب ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي: قدمنا عليه فتلقينا وأنزلنا دارا عامرة وحملت إلينا أنزال كثيرة ، ثم استدعينا إلى حضرته وقد فرشت دار الإمارة بالفروش الجميلة ، ووقف الخواص والأصحاب على مراتبهم من جانبي سريره ، وأقيم الجند في المجلس والصحن صفين ، فما يتجاوز قدم قدما وفي آخر الصفين ستمائة غلام دارية البزة الحسنة والأقبية الملونة ، فخدمنا وسلمنا وأوصلنا الكتاب وتردد من القول بين استخبار وإخبار الأخبار وابتداء وجواب ما يتردد مثله . وانصرفنا .
وأقيمت الخطبة في يوم الجمعة السابعة ليوم اللقاء ، ثم جرى الخوض فيما طلبوه من اللقب واقترحوا أن يكون اللقب السلطان المعظم مالك الأمم ، فقلت: هذا لا
[ ص: 226 ] يمكن لأن السلطان المعظم الخليفة ، وكذلك مالك الأمم ، فعدلوا إلى ملك الدولة فقلت: هذا ربما جاز ، وأشرت أن يخدم الخليفة بألطاف فقالوا: يكون ذلك بعد التلقيب ، فقلت: الأولى بأن يقدم ، ففعلوا وحملوا معي ألفي دينار سابورية ، وثلاثين ألف درهم نقرة ، وعشرة أثواب خزا سوسيا ، ومائة ثوب ديباجيا مرتفعة ، ومائة أخرى دونها ، وعشرين منا عودا . وعشرة أمناء كافورا ، وألف مثقال عنبر ، وألف مثقال مسكا ، وثلاث مائة صحن صيني ، ووقع بأقطاع وكيل الخدمة خمسة آلاف دينار مغربية من معاملات
البصرة ، وأن يسلم إليه ثلاثة آلاف قوصرة كل سنة ، ويجاز بغير مئونة ولا ضريبة ، وأفرد عميد الرؤساء
أبو طالب ابن طالب بن أيوب بخمسمائة دينار وعشرة آلاف درهم ، وعشرة أثواب ديباجا وعدنا إلى
بغداد ، فرسم لي الخروج إلى جلال الدولة وإعلامه الحال ، فخرجت وتلطفت في إجراء حديث اللقب ، وما سأله الملك فثقل عليه ذلك ثقلا اقتضاء وقوف الأمر فيه .
وفي ربيع الآخر وكان في أذار: جمد الماء جمودا ثخينا حتى في حافات
دجلة ، وهبت ريح رمت رملا أحمر ، وقام الثلج ما جمع ودق واستمر تأخر الأمطار ، وأجدبت الأرض وتلفت وهلك المواشي وتلف جمهور الثمار .
وقوي أمر العيارين ، وكبس رئيسهم البرجمي خانا ، فأخذ جميع ما فيه ، فقوتل فقتل جماعة ، وكان يأخذ كل مصعد ومنحدر ، وكبس دارا بسوق يحيى ، وأخذ ما فيها وأحرقها هذا والعسكر
ببغداد .
وفي هذا الشهر: اجتمع الجند ومنعوا من الخطبة للخليفة لأجل رسول البيعة ، فلم تصل الجمعة ، فتلطف الأمر حتى أقيمت الخطبة في الجمعة الثانية [على العادة] .