[زيادة دجلة زيادة مفرطة]
وفي جمادى الآخرة: ورد الحاجب
السليماني من
عكبرا فدخل الديوان ، فرسم له تدارك القورج الذي هو فوق الدار المعزية ، وكانت
دجلة قد زادت زيادة مفرطة ، واتصل المطر
بالموصل والجبال ، ونودي بالعوام أن يخرجوا معه لذلك ، فخرج من الديوان ، وأراد قصد الموضع فرأى الماء قد حجز بينه وبين الطريق ، فرجع إلى
دار [ ص: 155 ] المملكة ، وخلا وجمع زواريق ، وطرح فيها رحله ليعبر فهرب ، فجاءت في الليل ريح شديدة جدا ، وسيل عظيم ، وطفح الماء من البرية إلى الحريم ، وطغى على أسوار المحال فهدمها ، ونزل من فوقها وأسفل منها ، وصعد من تحت الأرض ، وقلع الطوابيق ، ونبع من الآبار والبلاليع فرماها في ليلتها فصارت تلالا عالية ، ثم صبح دار الخلافة ففعل بأكثرها مثل ذلك ، وكان قد دخلها من
بيت النوبة ومن سور
باب الغربة ، ثم من باب النوبي وباب العامة والجامع ، فهرب الخدم والخواص متحيرين ، والمطر يأتي من فوق ، وخرج الماء على الخليفة من تحت السرير الذي كان جالسا عليه ، فنهض إلى الباب فلم يجد طريقا ، فحمله أحد الخدم على ظهره إلى التاج ، وخرج الجواري حاسرات ، فعبرن إلى الجانب الغربي ، وأقيم في الدار أربع ركاء ، وحطت إليها الأموال والحرم ، ولبس الخليفة البردة ، وأخذ بيده القضيب ولم يطعم يومه وليلته .
وأما الوزير
فخر الدولة فإنه دخل عليه الماء في داره بباب العامة ، فركب وخاض بالفرس إلى حضرة الخليفة ، فاستأذن فيما يفعل فقيل له: اطلب لنفسك مخلصا قبل أن لا تجده ، فمضى إلى الطيار على باب الغربة ، فأقام فيه ، وجاءه الملاح بثلاثة أرغفة يابسة وخل ، فأكل واستلقى على البارية .
وهلك من أموال الناس تحت الهدم الكثير ، وتلف من سكان درب القباب الجم الغفير ، وهرب الناس إلى
باب الطاق ، ودار المملكة ، وتلال الصحراء العالية ، والجانب الغربي على تخبيط شديد ، وتضنك قبيح ، وجاء الماء من البرية كالجبال ، يهلك ما مر به من إنس ووحش ، وجاء على رأس الماء في الأبواب والأخشاب والآلات والحباب شيء كثير ، وشوهد على تل في وسط الماء سبع ويحمور واقفين ، وهلك من الوحوش ما لا يحصى ، وصعد بعضها الردافي فصعد السوادية سباحة فأخذوها .
وجاء الخبر من
الموصل أن الماء ورد في البرية كالجبال ، فلطم سور سنجار ، وكان حجرا فهدم قطعة منه ، ودحا بأحد بابيه أربعة فراسخ ، ووقعت آدر
بباب المراتب منها دار
ابن جردة ، وكانت تشتمل على ثلاثين دارا ، وعلى بستان ، وحمام يساوي عشرات
[ ص: 156 ] ألوف ، ووقع
مشهد باب أبرز ومنارته ، وغرقت المقابر ، وصعدت التوابيت على الماء ، وخرق
مشهد النذور ، ومقبرة الخيزران ، وقبر السبتي ، وتهدم الحريم من
باب النوبي إلى أكثر المأمونية ،
وباب الأزج ، وخرابة ظفر ، ودرب الشاكرية ، ودرب المطبخ ، ودرب حلاوة ، والمسعودة ، والشمعية ، وخرج الناس من هذه المواضع لا يلتفت أحد على أحد ، ووقع في
درب القيار عدل قطن وسط الدرب ، وعبر الناس عليه ، فداس بعضهم بعضا ، فوقع عليه جماعة موتى ، وكان رجل على كتفه ولدان صغيران فما زال يخوض بهما حتى أعيا فرمى بهما ونجا بنفسه ، وهلك من الناس والبهائم عدد كثير ، ثم عن لأقوام من المفسدين أن يزحفوا على الخليفة ليتسلطوا بذلك على النهب ، ونودي في الملاحين أن لا يأخذوا من الناس إلا ما جرت به العادة في العبور ، وأقيمت الجمعة في
الطيار أسبوعين ، وفي
الحلبة ثلاث جمع بعد ذلك ، فهيئ للخطيب في
الحلبة ثلاث قواصر ، فصعد عليها ، وكان الماء واقفا في الجامع أكثر من قامة ، ووقع معظمه ، ومالت حيطانه .
وأما الجانب الغربي فإنه وقع فيه مشهد الكف ، وغرقت
مقابر قريش ، ومقبرة
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل ، ودخل الماء من شبابيك
المارستان العضدي ، فوقف فيه ، وصمد نقيب النقباء الكامل بمواضع في أعلى البلد فسدها [والطاهر نقيب العلويين بمواضع في جانب
الكرخ فسدها] ولما نقص الماء تحول
فخر الدولة من
الطيار إلى
صحن السلام ، فضرب فيه خيما وخركاهات ، وكانت داره
بباب العامة قد غرقت ، وعمل الخدم أكواخا ، وبلغت أجرة الروزجاري خمسة قراريط إلى ثلاثة قراريط ، وجلس حاجب الباب
أبو عبد الله المردوسي في كوخ على عمل له عند
باب النوبي ، ثم أردف
[ ص: 157 ] هذا الطرق تغير الهواء بريح الغلات ونتن الأشياء الغريقة ، وتولى نقيب النقباء القورج .
ومن العجائب: أن أسافل
دجلة وواسط كانت تغرق من دون هذه الزيادة ، فما تجاوز هذا الأمر
بغداد ، وكان الناس يظنون أن السمك يكثر بهذا الماء ، فصار كالمعدوم ، وزرع الناس البطيخ والقثاء فداد حتى كان الناس إذا مروا بالقراح أمسكوا على الأنف .
وزاد في هذا الوقت
جيحون حتى ذهب ماؤه أربع فراسخ ، وتعذر الصناع حتى كان النساء يضربن اللبن .
ودخل في هذه الأيام
مؤيد الملك أبو بكر بن نظام الملك لأجل تزوجه بابنة
أبي القاسم بن رضوان البيع ، ونزل في
دار حميه بباب المراتب ، فلم يكن للناس طريق إلى تلقيه ، فأخذ في نفسه من ذلك ، فبعث الخليفة إليه من طيب قلبه ، وأقام العذر ، وحمل له خلعا ، وأذن له في الركوب
بباب المراتب عن سؤال تكرر منه ، فلبس الخلع ومضى إلى
بيت النوبة ، وتلقاه الوزير تلقيا لم تجر به عادة؛ تطييبا لقلبه ، وانصرف إلى دار بناها والده مع المدرسة ، فمضى الوزير إليه من غد في موكب .
وفي شعبان: وقعت الفتنة بين
القلائين والكرخ ، وجعلوا يشتمون الشحنة ومن قلده ، فعبر إليهم ، وقتل منهم وأحرق أماكن .
وفي ليلة الأربعاء سادس عشر ذي الحجة: ظهر في السماء برق كثير في جميع الأوقات ، واسودت السماء بالغيم ، وهبت بالليل ريح رمت عدة من الستر ، وجاء معها تراب كثير ورمل ، وسقط من أعمال
البصرة نحو من خمسة آلاف نخلة .