الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
وليست الغيرة عذرا في غيبة ونحوها في ظاهر كلام أحمد ، والأصحاب لعموم الأدلة ، ويتوجه احتمال ، وهو معنى كلام ابن عقيل في الفنون فإنه قال : قل أن يصح رأي مع فورة طبع ، فوجب التوقف إلى حين الاعتدال ، وهو أيضا معنى ما اختاره الشيخ تقي الدين ، فإنه اختار أن لا يقع طلاق من غضب حتى تغير ، ولم يزل عقله كالمكره ، وذلك لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : { استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك فقال : اللهم هالة بنت خويلد ، فقلت : وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرا منها } ؟ الغيرة بفتح الغين مصدر غار الرجل يغار غيرة وغيرا وغارا . والغيرة بكسر الغين الميرة والنفع . .

[ ص: 248 ] وقولها : حمراء الشدقين أي : لم يبق بشدقها بياض شيء من الأسنان قد سقطت من الكبر .

قال الطبري وغيره من العلماء : الغيرة مسامح للنساء فيها لا عقوبة عليهن فيها لما جبلن عليه من ذلك ، ولهذا لم يزجر عائشة وقال القاضي عياض : عندي أن ذلك جرى من عائشة لصغر سنها ، وأول شبيبها ، ولعلها لم تكن بلغت حينئذ ، كذا قال وهذا لا يمنع الإنكار زجرا وتأديبا كسائر المحرمات .

وفي الصحيحين أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول [ ص: 249 ] الله صلى الله عليه وسلم : { إني أعرف إذا كنت راضية عني وإذا كنت علي غضبى قالت : فقلت : ومن أين تعرف ذلك ؟ قال : أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين : لا ورب محمد ، وإذا كنت غضبى قلت : لا ورب إبراهيم قلت : أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك } قال القاضي عياض : مغاضبة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم هو مما سبق من الغيرة التي عفي عنها للنساء في كثير من الأحكام لعدم انفكاكهن منها حتى قال مالك وغيره من علماء المدينة : يسقط عنها الحد إذا قذفت زوجها بالفاحشة على جهة الغيرة قال واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما تدري الغيراء أعلى الوادي من أسفله } قال القاضي عياض : ولولا ذلك كان على عائشة رضي الله عنها في ذلك من الحرج ما فيه ، لأن الغضب على النبي صلى الله عليه وسلم وهجره كبيرة . عظيمة ولهذا قالت لا أهجر إلا اسمك . فدل على أن قلبها وحبها كما كان ، وإنما الغيرة في النساء لفرط المحبة . انتهى كلامه .

وفي الصحيحين أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه ، فطارت القرعة على عائشة وحفصة فخرجنا معه جميعا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الليل سار مع عائشة يتحدث معها فقالت حفصة لعائشة : ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك فتنظرين ، وأنظر قلت : بلى فركبت حفصة على بعير عائشة وركبت عائشة على بعير حفصة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم ، ثم سار معها حتى نزلوا ، فافتقدته عائشة فغارت فلما نزلت جعلت تجعل رجليها بين الإذخر وتقول يا رب سلط علي عقربا أو حية تلدغني ، رسولك ولا أستطيع أقول له شيئا } .

قال أبو زكريا النووي في شرح مسلم : هذا الذي فعلته ، وقالته حملها عليه فرط الغيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبق أن أمر الغيرة معفو عنه انتهى كلامه ، وما قاله لا يوافق مذهب الشافعي .

[ ص: 250 ] وروى أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن عبد الله بن زيد عن الأزرق عن عقبة مرفوعا { : غيرتان إحداهما يحبها الله عز وجل ، والأخرى يبغضها الله عز وجل : الغيرة في الريبة يحبها الله ، والغيرة في غيرها يبغضها الله عز وجل ، والمخيلة إذا تصدق الرجل يحبها ، والمخيلة في الكبر يبغضها الله عز وجل وقال : ثلاث دعوات مستجابات دعوة المظلوم ، ودعوة الوالد ، ودعوة المسافر } .

ولابن ماجه من حديث أبي هريرة ذكر الغيرة فقط . قيل : يحيى لم يسمع من زيد فدل ذلك على أن هذه الغيرة منهي عنها ، ويوافقه ما رواه أحمد والبخاري وغيرهما من حديث أبي هريرة { أنه عليه السلام قال له رجل : أوصني قال : لا تغضب فردد عليه قال : لا تغضب } وروى أحمد غير حديث في هذا المعنى ، وفي بعضها من رواية حميد عن عبد الرحمن عن رجل من الصحابة أن الرجل قال : ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله ، وروي أيضا من حديث ابن عباس : { علموا ويسروا ولا تعسروا ، وإذا غضب أحدكم فليسكت ثلاثا } .

وروي عن { عبد الله بن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يباعدني من غضب الله عز وجل ؟ قال لا تغضب } . فنهيه عنه دليل على دخوله تحت الوسع وإلا لم ينه عن المحال ، وما كان سببه محرما أو غير محرم تترتب عليه الأحكام مع وجود العقل إلا المكره لمعنى يختص به ، وظهر من هذا أن هذا السبب إن لم يكن معذورا فيه ، وزال عقله كان كزواله ببنج ونحوه على الخلاف فيه عندنا ، وإلا كان كسكر معذور فيه ، ونوم ونحوه ، وقد { أتى أبو موسى الأشعري النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله فوجده غضبان ، وحلف لا يحملهم وكفر } . الحديث . { وسأله رجل عن ضالة الإبل ، فغضب حتى احمرت وجنتاه ، واحمر وجهه ثم قال : ما لك ولها ؟ دعها } الحديث وهما في الصحيحين .

{ وكان عليه السلام عند بعض نسائه فأهدى بعضهن إليه طعاما فضربت يد الخادم ، فسقطت الصحفة فانفلقت فجمع الطعام ويقول : غارت أمكم [ ص: 251 ] ثم أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها فدفعها إلى التي كسرت صحفتها ، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرتها . } رواه البخاري من حديث أنس والدارقطني ، فصارت قضية من كسر شيئا فهو له وعليه مثله . ولأحمد وأبي داود والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها { أخذتني رعدة من شدة الغيرة ، فكسرت الإناء ، ثم ندمت فقلت يا رسول الله : ما كفارة ما صنعت ؟ فقال : إناء مثل إناء ، وطعام مثل طعام } .

وروى أبو داود في باب ترك السلام على أهل الأهواء حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت البناني عن سمية عن عائشة أنه { اعتل بعير لصفية بنت حيي ، وعند زينب فضل ظهر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب : أعطيها بعيرك فقالت : أنا أعطي تلك اليهودية ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر . } سمية تفرد عنها ثابت ; ولأنه قول ابن عباس وغيره وقد ظهر من ذلك الجواب عما تقدم مع أنه يحتمل أن الإنكار اختصره الراوي ، وأنه كان قد تقدم من النبي فاكتفى به .

والحديث الأخير ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك ، وظهر أيضا الجواب عما قال البخاري : باب إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب ، ثم روى قصة الأنصاري لما سمع اليهودي يقول : والذي اصطفى موسى على البشر ، فغضب فلطمه ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ; لأن الغضب مع وجود العقل لا يسامح بسببه في الأفعال هذا إن لم يكن جزاء هذا الفعل اختصره الراوي من هذه القصة للعلم به ووضوحه ، لكنه خلاف الظاهر ، ولهذا فهم البخاري خلافه ، والله سبحانه أعلم .

وفي الصحيحين من حديث { ابن عباس أنه سأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم } وذكر القصة ، { ودخول عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وقوله : لو رأيتنا يا رسول الله ، وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت : ما تنكر أن [ ص: 252 ] أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، فقلت : قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عز وجل عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا هي قد هلكت . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله قد دخلت علىحفصة فقلت : لا يغرنك أن كانت جارتك أوسم منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منك فتبسم أخرى فقلت : أستأنس يا رسول الله ؟

قال : " نعم " فجلست فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أهبا ثلاثة فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك ، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله عز وجل ، فاستوى جالسا ثم قال : أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ ، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت : استغفر لي يا رسول الله ، وكان قد أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن ، حتى عاتبه الله عز وجل على موجدته أي : غضبه
} .

التالي السابق


الخدمات العلمية