الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 14 ] فصل ( في حسن الجوار )

وروى المروذي عن الحسن ليس حسن الجوار كف الأذى ، حسن الجوار الصبر على الأذى .

ورواه أبو حفص العكبري في الأدب له عن الشعبي .

وفي الصحيحين من حديث عائشة ومن حديث ابن عمر { ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه } وفيهما من حديث أبي هريرة { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه } . ولمسلم أيضا { فليحسن إلى جاره } رواه أيضا من حديث أبي شريح العدوي ولأحمد { فليكرم جاره } ولأحمد من حديث عبد الله بن عمر { فليحفظ جاره } .

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة { والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه } ولمسلم أيضا { لا يدخل الجنة } .

وروى أبو داود ثنا الربيع بن نافع بن توبة ثنا سليمان بن حبان عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال اذهب فاصبر فآتاه مرتين أو ثلاثا فقال اذهب فاطرح متاعه في الطريق فطرح متاعه في الطريق فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره فجعل الناس يلعنونه : فعل الله به وفعل ، فجاء إليه جاره فقال له ارجع لا ترى مني شيئا تكرهه } . إسناده جيد ومحمد حسن الحديث وله أيضا وللترمذي وقال حسن غريب عن عبد الله بن عمرو أنه ذبح شاة فقال أهديتم لجارنا اليهودي ؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { ما زال جبريل } الحديث .

وقال البخاري في التاريخ في الكنى : أبو عمر هو البجلي قال علي بن حكيم الأودي ثنا شريك عن أبي عمر عن أبي جحيفة قال { شكا رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاره فقال احمل متاعك فضعه على الطريق [ ص: 15 ] فمن مر به يلعنه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما لقيت من الناس قال لعنة الله فوق لعنتهم } وقال ابن عبد البر كان داود عليه السلام يقول اللهم إني أعوذ بك من جار سوء عينه تراني وقلبه لا ينساني .

وقال أبو الدرداء مكتوب في التوراة : إن أحسد الناس للعالم وأبغاهم عليه قرابته وجيرانه وقال عكرمة أزهد الناس في عالم جيرانه وقال البيهقي وغيره عن كعب الأحبار : في الكتاب المنزل الأول أزهد الناس في عالم جيرانه . قال الحسن البصري وروي مرفوعا ولا يصح قال ابن عبد البر وقال رجل لسعيد بن العاص والله إني أحبك : فقال ولم لا تحبني ولست لي بجار ولا ابن عم ؟ كان يقال الحسد في الجيران والعداوة في الأقارب .

قال الشاعر :

أنت حلي وأنت حرمة جاري وحقيق علي حفظ الجوار     إن للجار إن تغيب عينا
حافظا للمغيب والأسرار     ما أبالي إن كان للباب ستر
مسبل أم بقي بغير ستار



وقال آخر :

ناري ونار الجار واحدة     وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضر جارا لي أجاوره     أن لا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي برزت     حتى تواري جارتي الجدر



وقال آخر :

أقول لجاري إذ أتأني معاتبا     مدلا بحق أو مدلا بباطل
إذا لم يصل خيري وأنت مجاور     إليك فما شري إليك بواصل



ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق . أخذه الشاعر فقال :

يقولون قبل الدار جار موافق     وقبل الطريق النهج أنس رفيق

[ ص: 16 ] وقال آخر :

اطلب لنفسك جيرانا تجاورهم     لا تصلح الدار حتى يصلح الجار

وقال آخر :

يلومونني إذ بعت بالرخص منزلا     ولم يعرفوا جارا هناك ينغص
فقلت لهم كفوا الملام فإنها     بجيرانها تغلو الديار وترخص

وقال الحسن البصري رحمه الله : إلى جنب كل مؤمن منافق يؤذيه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حق الجار أن تبسط إليه معروفك وتكف عنه آذاك وقال علي بن أبي طالب للعباس ما بقي من كرم إخوانك ؟ قال الإفضال على الإخوان ، وترك أذى الجيران قال الشاعر :

سقيا ورعيا لأقوام نزلت بهم     كأن دار اغترابي عندهم وطني
إذا تأملت من أخلاقهم خلقا     علمت أنهم من حلية الزمن



وقال آخر :

إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي     له مركب فضل فلا حملت رحلي
ولم يك من زادي له نصف مزودي     فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا رحل
شريكين فيما نحن فيه وقد أرى     علي له فضلا بما نال من فضلي

وقال آخر :

نزلت على آل المهلب شائنا     غريبا عن الأوطان في بلد محل
فما زال بي إكرامهم وافتقادهم     وبرهمو حتى حسبتهمو أهلي

وذكر ابن عبد البر : ثلاث إذا كن في الرجل لم يشك في عقله وفضله : إذا حمده جاره وقرابته ورفيقه . كدر العيش في ثلاث : الجار السوء ، والولد العاق ، والمرأة السيئة الخلق .

ثلاثة لا يأنف الكريم من القيام عليهن : أبوه وضيفه ودابته ويأتي هذا المعنى في مخالطة السلطان قبل فصول اللباس [ ص: 17 ] خمسة أشياء تقبح في خمسة أصناف : الحدة في السلطان ، وقلة الحياء في ذوي الأحساب ، والبخل في ذوي الأموال ، والفتوة في الشيوخ ، والحرص في العلماء والقراء .

وفيهما أيضا من حديثه { يا نساء المؤمنات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة } .

وللترمذي { تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر ، ولا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة } .

الفرسن العظم قليل اللحم وهو خف البعير أيضا كالحافر للدابة وقد يستعار للشاة وهو الظلف . ونونه زائدة وقيل أصلية ، ووحر الصدر بالتحريك غشه ووسواسه . ولأحمد من حديث عمر : لا يشبع الرجل دون جاره . قال في المستوعب : وحسن الجوار مأمور به فإن للجار حقا وحرمة ثم ذكر كما ذكر الحسن وزاد في آخره ما لم يعص الله تعالى . وجاء رجل إلى أبي العباس أحمد بن يحيى بن ثعلب يشاوره في الانتقال عن محلة إلى أخرى لتأذي الجوار ، فقال العرب تقول صبرك على أذى من تعرفه خير لك من استحداث من لا تعرفه وكان الشيخ تقي الدين يقول هذا المعنى أيضا .

وروى البيهقي في مناقب الإمام أحمد عن عثمان بن زائدة قال العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل . فحدثت به أحمد بن حنبل فقال العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل .

وروى أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال ما كثرت النعم على قوم قط إلا كثر أعداؤها . وقد ذكرت خبر حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا يا رسول الله وكيف يذل نفسه ؟ قال يتعرض من البلاء ما لا يطيق } وقال بعضهم :

إن الهوان حمار الموت يألفه     والحر ينكره والفيل والأسد [ ص: 18 ]
ولا يقيم بدار الذل يألفها     إلا الذليلان عبد السوء والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته     وذا يشج فلا يرثي له أحد

وقال آخر :

إذا كنت في دار يهينك أهلها     ولم تك مكبولا بها فتحول

وقال آخر :

لا تأسفن على خل تفارقه     إن الأقاصي قد تدنو فتأتلف
فالناس مبتذل والأرض واسعة     فيها مجال لذي لب ومنصرف

وقال آخر :

إذا ما الحر هان بأرض قوم     فليس عليه في هرب جناح
وقد هنا بأرضكم وصرنا     كقيء الأرض تذروه الرياح

وقال آخر :

وإذا الديار تنكرت عن حالها     فدع الديار وأسرع التحويلا
ليس المقام عليك حقا واجبا     في منزل يدع العزيز ذليلا

وقال آخر :

وكنت إذا ضاقت علي محلة     تيممت أخرى ما علي تضيق
وما خاب بين الله والناس عامل     له في التقى أو في المحامد سوق [ ص: 19 ]
ولا ضاق فضل الله عن متعفف     ولكن أخلاق الرجال تضيق

وقال آخر :

إذا كنت في دار فحاولت رحلة     فدعها وفيها إن أردت معاد

وقال آخر :

اصبر على حدث الزمان فإنما     فرج الشدائد مثل حل عقال
فإذا خشيت تعذرا في بلدة     فاشدد عليك بعاجل الترحال
إن المقام على الهوان مذلة     والعجز آفة حيلة المحتال

وقيل :

لا يمنعنك خفض العيش في دعة     نزوع نفس إلى أهل وأوطان
تلقى بكل بلاد إن نزلت بها     أهلا بأهل وجيرانا بجيران

وقال ابن عبد البر حين رحل من إشبيلية :

وقائلة مالي أراك مرحلا     فقلت لها صبرا واسمعي القول مجملا
تنكر من كنا نسر بقربه     وعاد زعاقا بعد ما كان سلسلا
وحق لجار لم يوافقه جاره     ولا لايمته الدار أن يترحلا
أليس بحزم من له الظل مقعد     إذا أدركته الشمس أن يتحولا
بليت بحمص والمقام ببلدة     طويلا لعمري مخلق يورث البلا
إذا هان حر عند قوم أتاهم     ولم ينأ عنهم كان أعمى وأجهلا
ولم تضرب الأمثال إلا لعالم     ولا غرب الإنسان إلا ليعقلا

[ ص: 20 ] قال ابن عبد البر قيل للأوزاعي رجل قدم إلى ضيفه الكامخ والزيتون وعندهم اللحم والعسل والسمن ؟ فقال لا يؤمن هذا بالله ولا باليوم الآخر . قال الشاعر :

طعامي طعام الضيف والرحل رحله     ولم يلهني عنه غزال مقنع
أحدثه إن الحديث من القرى     وتعلم نفسي أنه سوف يهجع

وقال آخر :

يستأنس الضيف في أبياتنا أبدا     فليس يعلم خلق أينا الضيف

وقال حسان :

يغشون حتى ما تهر كلابهم     لا يسألون عن السواد المقبل
وقد عرفت كلابهم ثيابي     كأني منهم ونسيت أهلي

وقال آخر :

أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله     ويخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى     ولكنما وجه الكريم خصيب

وقيل :

ضيفك قابله ببشرك وليكن     له منك أبكار الحديث وعونه

وقيل :

تراهم خشية الأضياف خرسا     يصلون الصلاة بلا أذان

وقيل :

ذريني فإن الشح يا أم مالك     لصالح أخلاق الرجال سروق
ذريني وحظي في هواني إنني     على الحسب العالي الرفيع شفيق

.

التالي السابق


الخدمات العلمية