الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 151 ] فصل ( في خطر كتمان العلم وفضل التعليم وما قيل في أخذ الأجر عليه ) .

قال مثنى : إنه سأل أبا عبد الله عن الحديث الذي جاء { من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار } فرفعه ولم ير إذا سئلت عن شيء إلا أن أجيب علمت ، ولم ير الجلوس في مسجد الجامع لمكان الشهرة ، ولم يكره أن أحدث فيه إذا من أراد ذلك مني وإن كنت متعلما .

وقال الخلال : سمعت أبا بكر أحمد بن محمد بن صدقة يقول قال أبو عبد الله : الأحاديث فيمن كتم علما ألجمه الله بلجام من نار لا يصح منها شيء .

قال أبو داود ( باب كراهية منع العلم ) ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد أنا علي بن الحكم عن عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة } ورواه ابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث علي بن الحكم له طرق عن علي بن الحكم ، وعلي من رجال البخاري ، ووثقه ابن سعد وأبو داود وغيرهما .

وقال أبو حاتم لا بأس به صالح الحديث وقد رواه صدقة بن موسى ، وهو ضعيف عندهم عن مالك بن دينار عن عطاء وقال ابن الجوزي في قوله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } .

قال : وهذه الآية توجب إظهار علوم الدين منصوصة كانت أو مستنبطة ، وتدل على امتناع جواز أخذ الأجرة على ذلك إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما يجب فعله ، كذا قال ابن الجوزي وقد يستحق [ ص: 152 ] الأجر على ما يجب فعله كأداء الشهادة ونحو ذلك على خلاف مشهور فيه .

ثم ذكر ابن الجوزي ما في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال : إنكم تقولون أكثر أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله الموعد وايم الله لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا بشيء أبدا ثم تلا { إن الذين يكتمون ما أنزلنا } إلى آخرها .

وروى ابن ماجه عن أبي هريرة قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم { أفضل الصدقة أن يتعلم المسلم علما ثم يعلمه أخاه المسلم } . وعن أبي الدرداء والحسن البصري وغيرهما هذا المعنى وقد ذكر الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله ذلك في بعض كلامه وقال : إن كاتم العلم يلعنه الله ويلعنه اللاعنون ، ومراد هؤلاء إذا لم يكن عذر وغرض صحيح في كتمانه والله أعلم وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه : علم لا يقال به ككنز لا ينفق منه ، وروي مرفوعا ولا يصح

وقال الضحاك أول باب من العلم الصمت ثم استماعه ثم العمل به ثم نشره .

وعن المسيح من تعلم وعمل فذاك يسمى عظيما في ملكوت السماء ، وعن المسيح عليه السلام علم مجانا كما علمت مجانا وقال الزهري إياكم وغلول الكتب وقال ابن المبارك : إذا كتم العالم علمه ابتلي إما بموت القلب ، أو ينسى ، أو يتبع السلطان ذكر ذلك البيهقي وغيره وسبق هذا المعنى بنحو كراسة في فصل " جاء رجلان " وقبله بنحو كراسة في فصل قال المروذي :

ويشترط فهم المتعلم والسائل ويسقط الفرض بذلك ، على هذا يدل كلام إمامنا وأصحابنا ، وهو مذهب الشافعي ، واشترط الحنفية حفظه وضبطه أيضا ; لأنه افترض عليه التعليم بقدر ما يحتاج إليه لإقامة فرائضه ولا يتمكن إلا بالحفظ .

وقال مهنا : سألت أحمد قال قال يحيى بن سعيد : ربما جاءني من يستأهل فلا أحدثه ، ويجيء من لا يستأهل أن أحدثه فأحدثه .

وعن أحمد أنه سئل عن شيء بعد ما ضرب قال : هذا زمان حديث ؟ فقال له السائل يا أبا عبد الله : يحل لك أن تمنعني حقي وتمنع هذا حقه ؟ لرجل آخر [ ص: 153 ] سأله عن شيء ، فقال : وما حقكم قال : ميراث محمد قال : فسكت أبو عبد الله . وعنه أيضا وقال له جماعة نسألك عن مسألة قال : قد قلت اليوم لا أجيب في مسألة ولكن ترجعون فأجيبكم إن شاء الله تعالى .

وقال الأثرم : أتينا أبا عبد الله في عشر الأضحى فقال قال أبو عوانة : كنا نأتي الجريري في العشر فيقول : هذه أيام شغل وللناس حاجات فابن آدم إلى الملال ما هو .

وقال محمد بن يحيى الكحال قلت لأبي عبد الله كأني أردت أن أحثه على الحديث قال : ليس لهم إكرام للشيوخ وقال عبد الله : جاء رجل إلى بابنا فقال لي أبي اخرج إليه فقل له : لست أحدثك ولا أحدث قوما أنت فيهم ، فقلت : ما شأنه يا أبت ؟ قال : رأيته يمجن على باب عفان .

وعن أحمد أنه خرج إلى الكتاب ليحدث قال الراوي : فأخرجنا الكتب فاطلع رجل صاحب هيئة ولباس فنظر إليه أحمد فأطبق الكتاب وغضب وقام ، فقال الرجل : أنا أذهب فحدث القوم ، فقال : ليس أحدث اليوم .

وعن مغيرة قال : كنت أحدث الناس رغبة في الأجر ، فأنا أمنعهم اليوم رغبة في الأجر ، وعن الميموني أنه سمع أبا عبد الله قال : وخرج إلينا فرأى جماعتنا فشكا ذلك إلينا ، وأخبرنا بما يكره من ذلك لمكان السلطان قال : ولولا ذلك لخف علي أن آتيهم في منازلهم قال ابن منصور قلت لأحمد : أيسعك ألا تحدث ؟ قال : لم لا يسعني ؟ ، أنا قد حدثت وقال له محمد بن مسلم بن فارة : يا أبا عبد الله لم قطعت الحديث والناس يحتاجون فمن فعل هذا ؟ فسمى رباح بن زيد وحبان أبو حبيب يعني ابن هلال حدثا ثم قطعا .

وقال المروذي قال أبو عبد الله سألوني يعني في المسائل التي وردت عليه من قبل الخليفة فلم أجب قلت : فلأي شيء امتنعت أن تجيب ؟ قال خفت أن تكون ذريعة إلى غيرها ; قال : وسمعت أبا عبد الله وسأله علي بن الجهم عن شيء فلم يجبه وقال : قد فقدت بعض ذهني [ ص: 154 ] وسأله عبد الرحمن بن خاقان عن شيء فلم يجبه وقال : قد فقدت بعض ذهني .

وقال ابن الجوزي في أوائل صيد الخاطر : أنا لا أرى ترك التحديث بعلة قول قائلهم : إني أجد في نفسي شهوة للتحديث ; لأنه لا بد من وجود شهوة الرياسة فإنها جبلة في الطباع . وإنما ينبغي مجاهدتها . ولا يترك حق للباطل .

التالي السابق


الخدمات العلمية