الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
فصل ( في كراهة الشكوى من المرض والضير واستحباب حمد الله قبل ذكرهما ) .

قال القاضي أبو الحسين في الطبقات في ترجمة أبي الفضل عبد الرحمن المتطبب ، وقال أبو العباس محمد بن أحمد بن الصلت : سمعت عبد الرحمن المتطبب يعرف بطبيب السنة يقول : دخلت على أحمد بن حنبل أعوده فقلت : كيف تجدك ؟ فقال : أنا بعين الله ، ثم دخلت على بشر بن الحارث فقلت : كيف تجدك ؟ قال أحمد الله إليك ، أجد كذا ، أجد كذا ، فقلت : أما تخشى أن يكون هذا شكوى ؟ فقال : حدثنا المعافى بن عمران عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة والأسود قالا : سمعنا عبد الله بن مسعود يقول قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك } فدخلت على أحمد بن حنبل فحدثته فكان إذا سألته قال : أحمد الله إليك ، أجد كذا أجد كذا .

قال الخلال في عبد الرحمن هذا : كان يأنس به أحمد وبشر بن الحارث ويختلف إليهما ، وأظن أن أبا الحسين نقل هذا من كتاب الخلال ، وهذا الخبر السابق متفق عليه .

وقال الشيخ مجد الدين في شرح الهداية ولا بأس أن يخبر بما يجده من ألم ووجع لغرض صحيح ، لا لقصد الشكوى . واحتج أحمد بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما قالت : { وارأساه . قال : بل أنا وارأساه } [ ص: 183 ]

واحتج ابن المبارك بقول ابن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم { إنك لتوعك وعكا شديدا ، فقال أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم } متفق عليه وقال ابن عقيل في الفنون قوله تعالى : { لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا } .

يدل على جواز الاستراحة إلى نوع من الشكوى عند إمساس البلوى ونظيره { يا أسفى على يوسف } { مسني الضر } { ما زالت أكلة خيبر تعاودني } انتهى كلام ابن عقيل .

وقال رجل للإمام أحمد : كيف تجدك يا أبا عبد الله ؟ قال : بخير في عافية ، فقال : حممت البارحة قال إذا قلت لك : أنا في عافية فحسبك لا تخرجني إلى ما أكره ، قال ابن الجوزي : إذا كانت المصيبة مما يمكن كتمانها فكتمانها من أعمال الله الخفية .

وقال ابن الجوزي في موضع آخر : شكوى المريض مخرجة من التوكل وقد كانوا يكرهون أنين المريض لأنه يترجم عن الشكوى ، وذكر هذا النص عن أحمد وقال : فأما وصف المريض للطبيب ما يجده ، فإنه لا يضره انتهى كلامه .

وقال عبد الله إن أخت بشر بن الحارث قالت للإمام أحمد : يا أبا عبد الله أنين المريض شكوى قال : أرجو أنه لا يكون شكوى ولكنه اشتكى إلى الله ، وذكر غير واحد في كراهة الأنين في المرض روايتين ، ورويت الكراهة عن طاوس ، وذكر الشيخ تقي الدين بن تيمية ما ذكر غيره من أن الصبر واجب قال : والصبر لا تنافيه الشكوى وقال في مسألة العبودية : والصبر الجميل صبر بغير شكوى إلى المخلوق . ثم حكي عن أحمد تركه الأنين لما حكي له عن طاوس كراهته ، ثم قال : وأما الشكوى إلى الخالق فلا تنافي الصبر الجميل وقال ابن الجوزي في قوله تعالى { يا أسفى على يوسف } . [ ص: 184 ]

فإن قيل : هذا لفظ الشكوى فأين الصبر ؟ فالجواب من وجهين أحدهما : أنه شكا إلى الله لا منه والثاني : أنه أراد به الدعاء فالمعنى يا رب ارحم أسفي على يوسف وقال : قال ابن الأنباري : والحزن ونفور النفوس من المكروه والبلاء لا عيب فيه ، ولا مأثم إذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثم ولم يشك من ربه . فلما كان قوله يا أسفى شكوى إلى ربه ، كان غير ملوم .

التالي السابق


الخدمات العلمية