واعلم أن
الفضائل لا تنال بالهوينا ، فبارك الله لأهل الدنيا في دنياهم ، فنحن الأغنياء وهم الفقراء ، فإن عمروا دارا سخروا الفعلة ، وإن جمعوا مالا فمن وجوه لا تصلح ، وكل واحد منهم يخاف أن يقتل أو يعزل أو يسم ، فعيشهم نغص ، العز في الدنيا لنا لا لهم ، وإقبال الخلق علينا ، وفي الآخرة بيننا وبينهم تفاوت إن شاء الله تعالى .
والعجب لمن شرفت نفسه حتى طلب العلم إذ لا تطلبه إلا نفس شريفة كيف يذل لنذل ، ما عزه إلا بالدنيا ، ولا فخره إلا بالمسكنة ، وقال ليس في الدنيا عيش إلا لعالم أو زاهد قال وإذا قنعا بما يكف لم يتمندل بهما سلطان ، ولم يستخدما بالترداد إلى بابه ، ولم يحتج الزاهد إلى تصنع ، والعيش اللذيذ المنقطع الذي لا يتمندل به ولا يحمل منه ، وما أكثر تفاوت الناس في الفهم حتى الشعراء كما قال بعضهم :
همها العطر والفراش ويعلو ها لجين ولؤلؤ منظوم
وهذا قاصر فإنه لو فعلت هذا سوداء لحسنها ، إنما المادح هو القائل :
ألم تر أني كلما جئت زائرا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
وكقول الآخر :
أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعني حتى إذا قلت هذا صادق نزعا
ولو كان صادقا في المحبة لما كان له قلب يخاطبه ، وإذا خاطبه في الهجر .
لم يوافقه ، إنما المحب الصادق هو القائل :
يقولون لو عاتبت قلبك لارعوى فقلت وهل للعاشقين قلوب
انتهى كلامه والبيت الثاني
لامرئ القيس قاله في
أم جندب .
[ ص: 219 ] وقال أيضا في كتابه السر المصون : مثل المحب للعلم مثل العاشق ، فإن العاشق يهتم بمعشوقه ، ويهيم به ، وكذلك المحب للعلم ، فكما أن العاشق يبيع أملاكه ، وينفقها على معشوقه فيفتقر كذلك محب العلم فإنه يستغرق في طلبه العمر فيذهب ماله ، ولا يتفرغ للكسب ، فإذا احتاج دخل في مداخل صعبة ، فمنهم من يتعلق بالسلاطين إما أن يدخل في أشغالهم ، أو يطلب منهم ومن العلماء من يطلب من العوام البخلاء ، ومنهم من يرجع عن الجد في العلم إلى الكسب .