الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 229 ] فصل ( حكم هجر أهل المعاصي ) .

يسن هجر من جهر بالمعاصي الفعلية والقولية والاعتقادية قال أحمد في رواية حنبل : إذا علم أنه مقيم على معصية وهو يعلم بذلك لم يأثم إن هو جفاه حتى يرجع ، وإلا كيف يتبين للرجل ما هو عليه إذا لم ير منكرا ولا جفوة من صديق ؟ ونقل المروذي : يكون في سقف البيت الذهب يجانب صاحبه ؟ يجفى صاحبه وقد اشتهرت الرواية عنه في هجره من أجاب في المحنة إلى أن مات ، وقيل : يجب أن ارتدع به وإلا كان مستحبا ، وقيل : يجب هجره مطلقا إلا من السلام بعد ثلاثة أيام وقيل : ترك السلام على من جهر بالمعاصي حتى يتوب منها فرض كفاية ، ويكره لبقية الناس تركه ، وظاهر ما نقل عن أحمد ترك الكلام والسلام مطلقا .

قال أحمد في رواية الفضل وقيل له : ينبغي لأحد أن لا يكلم أحدا ؟ فقال : نعم إذا عرفت من أحد نفاقا فلا تكلمه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاف على الثلاثة الذين خلفوا فأمر الناس أن لا يكلموهم قلت : يا أبا عبد الله كيف يصنع بأهل الأهواء قال أما الجهمية والرافضة فلا ، قيل له : فالمرجئة قال : هؤلاء أسهل إلا المخاصم منهم فلا تكلمه ، ونقل الميموني نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام الثلاثة الذين تخلفوا بالمدينة حين خاف عليهم النفاق ، وهكذا كل من خفنا عليه .

وقال في رواية القاسم بن محمد أنه اتهمهم بالنفاق ، وكذا من اتهم بالكفر لا بأس أن يترك كلامه .

قال القاضي وقد أخذ أحمد رضي الله عنه بحديث عائشة رضي الله عنها [ ص: 230 ] في قصة الإفك في رواية مثنى الأنباري ، وقد سأله أكثر ما يعرف في المجانبة فذكر حديث عائشة رضي الله عنها في ترك النبي صلى الله عليه وسلم كلامها ، والسلام عليها حين ذكر ما ذكر كذا حكاه ، ولم أجد في قصة الإفك هذا بل كان قبل أن يأذن لها أن تذهب إلى بيت أبيها إذا دخل عليها يسلم ثم يقول : " كيف تيكم ؟ " ففي هذا ترك اللطف فقط ، وأما قصة كعب ففيها ترك السلام والكلام ، ولهذا كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم قال : فأقول : هل حرك شفتيه ؟ وإنه سلم على أبي قتادة فلم يرد عليه وحمله جماعة ممن شرحه على ظاهره في هجر أهل البدع والمعاصي بترك الكلام ، والسلام بخوف المعصية .

وفي رواية مثنى المذكورة والتي قبلها إباحة الهجر وترك الكلام والسلام بخوف المعصية ، ورواية الميموني تدل على وجوبه وكلام الأصحاب صريحة في النشوز على تحريمه .

وأما ما رواه مسلم بعد قصة الإفك عن أنس { أن رجلا كان يتهم بأم ولده فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأمر عليا أن يذهب فيضرب عنقه فذهب فوجده يغتسل في ركي وهي البئر فرآه مجبوبا فتركه } فلعل معناه : اذهب فاضرب عنقه إن ثبت ذلك عليه ، وحذف للعلم به .

وفي شرح مسلم قيل : لعله مستحق القتل بغير الزنا وحركة الزنا ، وكف عنه علي اعتمادا على أن القتل بالزنا ، وقد علم انتفاء الزنا .

قال القاضي : وذكر الآجري في هجرة أهل البدع والأهواء قصة حاطب بن أبي بلتعة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهجره ، ثم تاب الله عز وجل عليه كذا ذكره القاضي عن رواية الآجري ، ولم أجد هذا في قصة حاطب بل فيها في صحيح البخاري { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صدق ولا تقولوا له إلا خيرا فقال عمر رضي الله عنه : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني أضرب عنقه فقال : يا عمر وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل [ ص: 231 ] بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة فدمعت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم } ، وفي بعض طرقه " فقد غفرت لكم " كرواية مسلم وفي بعض طرقه أيضا أن عمر سأله في قتله مرتين .

قال القاضي وروى الآجري عن أبي هريرة مرفوعا { : لكل أمة مجوس وإن مجوس هذه الأمة القدرية فلا تعودوهم إذا مرضوا ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا } .

قال القاضي هذا مبالغة في الهجر . وقد روى أبو داود من حديث رجل من الأنصار عن حذيفة مرفوعا معناه ، وروي أيضا عن ابن عمر مرفوعا معناه وليس فيه " لكل أمة مجوس " ، وروي أيضا من رواية ربيعة الجرشي عن أبي هريرة عن ابن عمر مرفوعا { لا تجالسوا أهل القدر ولا تناكحوهم } رواه أحمد وإسناده جيد وفيه حكيم بن شريك الهذلي تفرد عنه عطاء بن دينار ووثقه ابن حبان .

قال القاضي : وروى الخلال عن ابن مسعود أنه رأى رجلا يضحك في جنازة . فقال : أتضحك مع الجنازة ؟ لا أكلمك أبدا . وبإسناده عن الحسن قال : كان لأنس بن مالك امرأة في خلقها سوء ، فكان يهجرها السنة والأشهر ، فتتعلق بثوبه فتقول : أنشدك بالله يا ابن مالك أنشدك بالله يا ابن مالك فما يكلمها . وبإسناده عن أنس وقيل له : إن قوما يكذبون بالشفاعة وقوما يكذبون بعذاب القبر ، قال : لا تجالسوهم وبإسناده عن حذيفة أنه قال لرجل جعل في عضده خيطا من الحمى : لو مت وهذا عليك لم أصل عليك ، وبإسناده عن الحسن قال قيل لسمرة : إن ابنك أكل طعاما حتى كاد أن يقتله ، قال : لو مات ما صليت عليه ، وبإسناده أن عمر كتب إلى أهل البصرة أن لا تجالسوا صبيغا .

وبإسناده عن مجاهد قلت لابن عباس : إن أتيتك برجل يتكلم في القدر ؟ فقال : لو أتيتني به لأوجعت رأسك ، ثم قال : لا تكلمهم ولا تجالسهم .

وقال سعيد بن جبير لأيوب : لا تجالس [ ص: 232 ] طلق بن حبيب فإنه مرجئ ، وقال إبراهيم لرجل تكلم عنده في الإرجاء : إذا قمت من عندنا فلا تعد إلينا .

وقال محمد بن كعب القرظي : لا تجالسوا أصحاب القدر ولا تماروهم ، وكان حماد بن سلمة إذا جلس يقول : من كان قدريا فليقم ، وعن طاوس وأيوب ، وسليمان التيمي أبي السوار ويونس بن عبيد وغيرهم معنى ذلك ، قال القاضي هو إجماع الصحابة والتابعين .

وقال ولأن كل معصية حل بها الهجر لم تتقدر بالثلاث ، أو نقول جاز أن يزيد على الثلاث دليله هجر الزوج لزوجته عند إظهار النشوز بقوله تعالى : { واهجروهن في المضاجع } .

قال وإنما لم يهجر أهل الذمة لأنا عقدناها معهم لمصلحتنا بأخذ الجزية ، فلو قلنا : يهجرون زال المعنى المقصود .

وأما أهل الحرب ففي الامتناع من كلامهم ضرر ; لأنه يؤدي إلى ترك مبايعتهم وشرائهم ، وأما المرتدون فإن الصحابة رضي الله عنهم باينتهم بالحروب والقتال ، وأي هجر أعظم من هذا ؟ وذكر الشيخ موفق الدين رحمه الله في المنع من النظر في كتب المبتدعة قال : كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع والنظر في كتبهم والاستماع لكلامهم إلى أن قال : وإذا كان أصحاب النبي ومن اتبع سنتهم في جميع الأمصار والأعصار متفقين على وجوب اتباع الكتاب والسنة ، وترك علم الكلام ، وتبديع أهله وهجرانهم ، والخبر بزندقتهم ، وبدعتهم ، فيجب القول ببطلانه وأن لا يلتفت إليه ملتفت ، ولا يغتر به أحد .

وقال أبو داود لأبي عبد الله أحمد بن حنبل : أرى رجلا من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة أترك كلامه قال : لا أو تعلمه أن الرجل الذي [ ص: 233 ] رأيته معه صاحب بدعة فإن ترك كلامه فكلمه ، وإلا فألحقه به . قال ابن مسعود : المرء بخدنه وقال عبد الله بن محمد بن الفضل الصيداوي : قال لي أحمد إذا سلم الرجل على المبتدع فهو يحبه . قال النبي صلى الله عليه وسلم { : ألا أدلكم على ما إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم } ويجب الإغضاء عمن سترها وكتمها . زاد في الرعاية الكبرى وشق عليه إشاعتها عنه .

قال المروذي قلت : لأبي عبد الله اطلعنا من رجل على فجور ، وهو يتقدم يصلي بالناس أخرج من خلفه قال : اخرج من خلفه خروجا لا تفحش عليه .

وقال ابن منصور لأبي عبد الله : إذا علم من الرجل الفجور أنخبر به الناس ؟ قال : لا بل يستر عليه إلا أن يكون داعية ، ويتوجه أن في معنى الداعية من اشتهر وعرف بالشر والفساد ينكر عليه ، وإن أسر المعصية ، وهو يشبه قول القاضي فيمن أتى ما يوجب حدا إن شاع منه استحب أن يذهب إلى ولي الأمر ليأخذه به ، وإلا ستر نفسه .

وقد قال القاضي : فإن كان يستتر بالمعاصي فظاهر كلام أحمد أنه لا يهجر ، قال في رواية حنبل : ليس لمن يسكر ويقارف شيئا من الفواحش حرمة ولا صلة إذا كان معلنا بذلك مكاشفا .

قال الخلال في كتاب المجانبة : أبو عبد الله يهجر أهل المعاصي ومن قارف الأعمال الردية ، أو تعدى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على معنى الإقامة عليه ، أو الإضرار ، وأما من سكر أو شرب أو فعل فعلا من هذه الأشياء المحظورة ، ثم لم يكاشف بها ، ولم يلق فيها جلباب الحياء ، فالكف عن أعراضهم ، وعن المسلمين ، والإمساك عن أعراضهم ، وعن المسلمين أسلم . وكلام الشيخ موفق الدين السابق يقتضي أن لا فرق بين الداعية إلى البدعة وغيره ، وظاهره أنه إجماع السلف ، وذكر غيره في عيادة المبتدع الداعية روايتين ، وترك العيادة من الهجر ، واعتبر الشيخ تقي الدين المصلحة ، وذكر أيضا أن المستتر بالمنكر ينكر عليه ، ويستر عليه ، فإن لم ينته فعل ما ينكف به إذا كان أنفع في الدين ، وإن المظهر للمنكر يجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك .

[ ص: 234 ] وينبغي لأهل الخير أن يهجروه ميتا إذا كان فيه كف لأمثاله فيتركون تشييع جنازته . انتهى كلامه .

وهذا لا ينافيه وجوب الإغضاء ، فإنه لا يمنع وجوب الإنكار سرا جمعا بين المصالح ، وكلامهم ظاهر ، أو صريح في وجوب الستر على هذا ، وظاهر كلام الخلال السابق يستحب ، ولم أجد بين الأصحاب رحمهم الله خلافا في أن من عنده شهادة بما يوجب حدا له أن يقيمها عند الحاكم ، ويستحب أن لا يقيمها لقوله : عليه السلام { من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة } ، فدل هذا على أن ستره لا يجب ، وأنه ينكر عليه بطريقة ، ولم يفرقوا بين أن يكون المشهود عليه مشهورا بالشر والفساد أم لا ، ولا يتوجه ما تقدم من كلام القاضي في المقر .

وروى أبو داود حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن نشيط عن كعب بن علقمة عن أبي الهيثم عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة } حدثنا محمد بن يحيى ثنا إبراهيم بن أبي مريم أنبأنا الليث حدثني إبراهيم بن نشيط عن { كعب بن علقمة أنه سمع أبا الهيثم يذكر أنه سمع دحينا كاتب عقبة بن عامر قال : كان لي جيران يشربون الخمر فنهيتهم فلم ينتهوا ، فقلت لعقبة بن عامر : إن جيراننا هؤلاء يشربون الخمر ، وإني نهيتهم فلم ينتهوا فأنا داع لهم الشرط ، فقال : دعهم ، ثم رجعت إلى عقبة مرة أخرى فقلت : إن جيراننا قد أبوا أن ينتهوا عن شرب الخمر ، وأنا داع لهم الشرط ، فقال : ويحك دعهم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر معنى حديث مسلم . قال أبو داود : قال هشام بن القاسم عن ليث في هذا الحديث قال : لا تفعل ، ولكن عظهم وتهددهم } كعب تابعي ثقة لم يرو عن أبي الهيثم غيره [ ص: 235 ] ولهذا قال بعضهم في أبي الهيثم لا يعرف . وقد روى خبره أحمد والنسائي ، وقال ابن عقيل في الفنون : الصحابة رضي الله عنهم آثروا فراق نفوسهم لأجل مخالفتها للخالق سبحانه وتعالى ، فهذا يقول : زنيت فطهرني ، ونحن لا نسخو أن نقاطع أحدا فيه لمكان المخالفة .

وقال في شرح مسلم في قوله صلى الله عليه وسلم : { ومن ستر مسلما ستره الله عز وجل يوم القيامة } قال : وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفا بالأذى والفساد ، وأما المعروف بذلك ، فيستحب أن لا يستر عليه ، بل ترفع قصته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة ; لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله ، وهذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت ، أما معصية رآه عليها ، وهو بعد متلبس ، فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه على من قدر على ذلك ، فلا يحل تأخيرها ، فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم يترتب على ذلك مفسدة .

وأما جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم فيجب عند الحاجة ، ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم ، وليس هذا من الغيبة المحرمة ، بل من النصيحة الواجبة ، وهذا مجمع عليه .

قال العلماء في القسم الأول الذي يستر فيه : هذا الستر مندوب فلو رفعه إلى السلطان ونحوه لم يأثم بالإجماع ، لكن هذا الأولى وقد يكون في بعض صوره ما هو مكروه انتهى كلامه .

وإذا لم يأثم برفع فاعل معصية انقضت فرفع من هو متلبس بها ابتداء مثله ، أو أولى وما ذكره من الإجماع فيه نظر لما سبق ولما يأتي . وقد ذكر هو وغيره قصة حاطب بن أبي بلتعة فيها هتك ستر المفسدة إذا كان فيه مصلحة ، أو كان في الستر مفسدة ، وإن الأحاديث في السنن تحمل على ما إذا لم تكن فيه مفسدة ، ولا تفوت به مصلحة .

وقد ذكر المهدوي في تفسيره أنه لا ينبغي لأحد أن يتجسس على أحد [ ص: 236 ] من المسلمين قال : فإن اطلع منه على ريبة وجب أن يسترها ويعظه مع ذلك ويخوفه بالله تعالى . وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملا ثم يصبح ، وقد ستره عليه الله ، فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره الله عز وجل ، ويصبح يكشف ستر الله عز وجل عنه } . في نسخ معتمدة أو معظم النسخ { معافاة } يعود إلى الأمة .

وفي بعض النسخ { وإن من المجاهرة } وفي بعضها { وإن من الجهار } يقال : جهر بأمره وأجهر وجاهر .

قال ابن عقيل في الفنون : سؤال عن قوله : صلى الله عليه وسلم { وجبت } ، والجواب أنه يجوز أن يكون قوله ذلك مما ألقي إليه من الوحي . ويحتمل أن يكون لما ظهر له حين غفر شره لخيره ( والثالث ) يجوز أن يكون استسراره بالشر طاعة لله تعالى حيث قال : من أتى من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل فوجبت له المغفرة بطاعة الشرع باستسراره لستر الله عز وجل ، فجازاه الله عز وجل على ذلك بالمغفرة لما ستره عن الخلق طاعة للحق والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية